جُبلت النفس على التطلع إلى من يلي أمرها أو يتقدّمها، من إمام و عالم ترصد أقواله و أفعاله، أو أمير و حاكم تراقب حركاته و سكناته، فإذا ما ندّ عن أحدهم مسلك يطعن في سيرته نالته السهام حتى قبل التحقق والتثبت، أو لاحظت عليه بذخا في حال الشدة، أو يسارا فيمن يحيط به-و الناس مقلّون أو معسرون- طعنوا في براءته، و شككوا في إخلاصه، و لا يزال هذا الأمر ساريا بين العقلاء في كل دين و جنس، و ما أحسب الغربيين يُمدّ لهم في آجال البقاء و التميز إلا بأخلاق النزاهة و الشفافية.
جاء في تاريخ الطبري و غيره من المصادر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه-في السنة التي ضرب فيها الطاعون أرض الشام، فيما عرف بطاعون عمواس و ذهب فيه بعض كبار الصحابة و منهم أبو عبيدة-كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه:" أن سلام عليك، أما بعد فإنه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إليّ، قال: فعرف أبو عبيدة إنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر الله لأمير المؤمنين، ثم كتب إليه: يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إليّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضى الله فيّ وفيهم أمره وقضاه، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندي، فلما قرأ عمر الكتاب بكى..."
ما صدر عن أبي عبيدة يعبر عن فقه كامل بالدور الذي يفترض أن يقوم به مَن هو في مثل موقعه، فالمواقع الريادية تعظم فيها المسؤوليات إن كان القائد ومَن وراءه يحملون رسالة أو يضطلعون بمهمة، وليست فرصة للإثراء أو حتى مكانا لتحقيق الذات و إبراز المواهب، وهو ما فقهه جيل الصحابة الذين تحلقوا حول الرسول صل الله عليه وسلم، و ما كان يحدوهم في أعمالهم سوى تحقيق المصالح و المقاصد الكبرى للنفس و الجماعة المسلمة، بدليل أن أبا عبيدة آثر أن يبقى بين الجند الذين أولوه ثقتهم، إلى أن تخطّفه الطاعون، الذي خشي عليه عمر أن ينال منه-و قد ذهب بالآلاف كما تروي كتب التاريخ- ولا يظنّن ظان بأن عمر رضوان الله عليه كان يريد سلامة الرجل، لأنه قريب أو حبيب، فما دار بخلده مثل هذا الخاطر، و إنما دافعه أن يستبقي أبا عبيدة لما له من سبق و فضل في خدمة دين الله، يمكنه بهما أن يقدم المزيد.
القدوة وحدها هي التي تصنع الرجال، و التضحية في تحمل الأعباء و المسؤوليات هي التي تجلب الصدقية لأصحابها، و لو راح المدّعون يطلقون ألف شعار عن صدقهم و إخلاصهم، من دون أن تشفع لهم أعمال و تضحيات لما صدّقهم أحد، و لكن موقفا واحدا يكشف عن صدق و إخلاص الرائد يغني عن ألف خطبة و شعار، و في هذه الواقعة كان يمكن لأبي عبيدة أن يبرر غيابه أمام الجند بطلب عمر له، و كان يمكن ألا يشكك في دعواه أحد، و أن يستغل طلب الخليفة للهرب من مخاطر الداء الذي كان بصدد الفتك بالآلاف، و لكنه أبى أن ينحاز إلى هذا الخيار، لصدقه و إخلاصه، ولمعرفته بالدور المنوط به.
الأمر الأخير الذي لا تخطئه القراءة-و تكشف عنه العلاقات القائمة على أسس ثابتة و متينة أو هو الذي ينبئ عنها و يؤكدها-هي فهم المخلصين لما يدور في أذهان بعضهم البعض، من خلال إشارات في القول أو العمل، فبالرغم من خطاب عمر الذي لم يفصح فيه عما يريده من أبي عبيدة، إلا أن هذا الأخير قد فهم قصد عمر، و أجابه بما أجابه به، من اعتذار جم يشفع له فيه رغبته في البقاء بين جنوده و أتباعه، و هي الرغبة التي لا يستطيع عمر أو غيره أن يجادل في مشروعيتها، أو أن يصرفها إلى أمر آخر إلا بأمر صريح يوجهه، و لا يبقى معه مجال للتحجج أو الاعتذار.