منتدى متوسطة الشهيد بوربيعة الحملاوي التعليمية
رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 701769

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

احبتنا زوار الموقع الكرام نود اعلامكم جميعا بان المنتدى مفتوحاً للجميع
لذلك فلا تبخلوا علينا بزيارتكم والتصفح ولو بالقراءة والدعاء

لا نريد ان نجبركم على التسجيل للتصفح نريدكم فقط ان استفدتم شيئاً من الموقع بان تدعو من قلبك لصاحب الموضوع والعاملين بالموقع

ودمتم بحفظ الله ورعايته
"خير الناس أنفعهم للناس"

رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 701769
منتدى متوسطة الشهيد بوربيعة الحملاوي التعليمية
رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 701769

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

احبتنا زوار الموقع الكرام نود اعلامكم جميعا بان المنتدى مفتوحاً للجميع
لذلك فلا تبخلوا علينا بزيارتكم والتصفح ولو بالقراءة والدعاء

لا نريد ان نجبركم على التسجيل للتصفح نريدكم فقط ان استفدتم شيئاً من الموقع بان تدعو من قلبك لصاحب الموضوع والعاملين بالموقع

ودمتم بحفظ الله ورعايته
"خير الناس أنفعهم للناس"

رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 701769
منتدى متوسطة الشهيد بوربيعة الحملاوي التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى متوسطة الشهيد بوربيعة الحملاوي التعليمية


 
تعليمية تربويةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولاستمع لاذاعة الجزائر
:لتحميل جريدة الشروق .......  .اظغط هنااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 3163375  لتحميل جريدة الخبر :  :...... .اظغط هنااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 3163373  لتحميل جريدة النهار الجزائرية :...... .اظغط هناااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 3163378 لتحميل جريدة الفجر الجزائرية :...... .اظغط هناااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 3163372 لتحميل جريدة صوت الأحرار :..... .ظغط هنااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 لتحميل جريدة الشعب الجزائرية :..... .اظغط هناااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لتحميل جريدة المساء الجزائرية :....... .اظغط هناااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لتحميل جريدة النصر الجزائرية :..... ..اظغط هنااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لتحميل جريدة البلاد الجزائرية :..... اظغط .هناااااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 لتحميل جريدة أخر ساعة الجزائرية :...... .اظغط هناااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 لتحميل جريدة الهداف الجزائرية :........ اظغط .هناااااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615   لتحميل جريدة الشباك الجزائرية : ........ اظغط هناااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لتحميل جريدة الأيــــــام الجزائرية : ....... اظغط ..هناااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لتحميل جريدة الجمهورية الجزائرية :........ .اظغط هنااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 لتحميل جريدة اليوم الجزائرية :...... اظغط هنااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 لتحميل جريدة الأمة العربية : ..... اظغط هنااااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لتحميل جريدة البصائر الجزائرية :....... حمل من هنااااااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 
رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لزيارة موقع مديرية التربية لولاية المدية اظغط هنا : اظغط هنااااااااااااااا    رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615 لزيارة موقع الديوان الوطني للامتحانات و المسابقات : اظغط هنااااااااااااااااااااااا  رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615    لزيارة موقع المديرية العامة للوظيفة العمومية : اظغط هناااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  . لمعرفة رصيد حسابك ccp . اظغط هنااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لزيارة موقع الهيئات الرسمية كل الوزارات الجزائرية : اظغط هناااااااااااااااا رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث 384615  لزيارة الديوان الوطني للتعليم و التكوين عن البعد :  اظغط هناااااااااااااااا 

 

 رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فؤاد نور الاسلام
كبارالشخصيات

كبارالشخصيات
فؤاد نور الاسلام


ذكر
الدولة : الجزائر
تاريخ الميلاد : 01/01/1977
مبرمج
الجزائر
التقيم : 48
عدد المساهمات : 3242
نقاط : 363298266
تاريخ التسجيل : 15/10/2012

رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث Empty
مُساهمةموضوع: رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث   رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث I_icon_minitime06.03.13 20:33

رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث


الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم.
والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي بعثه الله رحمة للعالمين وجعل من أمته الأمية خير أمة أخرجت للناس، كانت في جاهلية جهلاء، فأنزل الله على رسوله (إقرأ) فأصبحت بها حين قرأت وكتبت معلمة العالم، وحاملة راية الفكر والعلم عن بني البشر قروناً.
وفي هذه الرسالة اللطيفة نسير مع الخط العربي، هذا الحرف المقدس الذي نزل به القرآن الكريم، وجعل النطق به عبادة لله التي لا يقبل الله صلاة بغيره.
وجعل فيه سر إعجازه وبيانه، فزاد هذا الحرف جمالاً إلى خصوصياته، مما جعل الخطاطين عبر العصور وفي سائر البلاد التي يوجد فيها فنانون وخطاطون يتبارون في رسم حروفه فيطرزونها وينمقونها، ويجعلون من هذا الحرف الصامت حرفاً ينطق بحركة الحيوية، ليعبر عن جماله في تلك الأشكال والحركات التي جعلته يتكلم من غير لسان، وتفوح رائحته العطرة من خلال متابعة الكلمة الواحدة حرفاً حرفاً.
لقد تناولت في هذه الرسالة المتواضعة رحلة الخط العربي منذ أن كان في أعماق الجزيرة العربية (مسنداً) على القبور والآثار إلى أن أصبح لوحات حديثة في المتاحف ومعارض الخط، وذلك من خلال وجهة نظري ككاتب وباحث لا من وجهة نظر الفنان والخطاط الذي يتابع الحرف والكلمة لدى المبدعين وذوي الاختصاص، ولذا أرجو المعذرة من هؤلاء الخطاطين الذين ينظرون إلى الكتابة عن الخط وتاريخه كما ينظرون إلى جمالية الخط وإبداع الخطاط في لوحته.
وسيجد القارئ الكريم في الباب الثالث (الخطاطون العظام) تراجم المشهورين من القدماء والمحدثين، وإن كنت قد اختصرته على أقل القليل بغية الإحاطة بحياتهم، وتيسيره للقارئ.
أرجو الله أن يوفقني لما يحبه ويرضاه لخدمة تراثنا العربي والإسلامي الذي نعتز به، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دير الزور في 15 رمضان 1421هـ
الموافق 11 كانون الأول 2000م.

أحمد شوحان









الخطاط


هو الفنان الذي يجعل من الحروف العربية لوحة فنية يقف أمامها المشاهد مبهوتاً يفكر في دقة الكتابة، وروعة القصبة، وعبقرية الخطاط.
ولا يقتصر الخطاط على صناعة لوحة فنية من الحروف العربية، لكنه يصنع منها لوحات كثيرة، كل واحدة منها تحكي براعته في صناعة تلك التحف التي يعجز عن مثلها النحات والمصور والمغني والكاتب ونحوهم.
إن الخطاط المبدع هو الذي يجعل موهبته في اللوحة تتكلم من خلال رشاقة الخط، وتناسق سطوره، ومدّاته وحركاته.
ونلمس قدرة الخطاط في إتقان مهنته، عندما نقف أمام لوحة من لوحاته فنجد حبرها متكاملاً في بداية الحرف الأول، ومتواصلاً في ذلك إلى نهاية الأخير، وأن قلمه (القصبة) التي كتب بها تناسب قطَّتُها حجم الخط ومساحة اللوحة، والقلم الذي يكتب فيه على ورق أو كرتون يختلف فيه نوعه وحجمه عما يكتب فيه على الخشب والجص والرخام والجلد والبلاستيك والزجاج والقماش وغيرها من مختلفات المواد.
وإذا كان الخطاط اليوم يستعمل الفرشاة في أغلب اللوحات فقد كان قديماً يكتب كل ذلك بالقلم (القصبة)، وحينما اخترع المتأخرون القصبة من معدن اعتبروا ذلك عيباً في الخطاط لأن قصبة الحديد لا تعطي ما تعطيه القصبة النباتية.
إن الخطاط فنان مبدع، يستحق الانحناء والتكريم تقديراً لما يقدمه من لوحات خطّية للأجيال القادمة.


فضل الخط
الخط والكتابة وجهان لعملة واحدة، وهما عصارة فكر الإنسان الذي فكر في الإبداع منذ الأزل، وسيبقى يفكر في خلود الذكر والأثر إلى الأبد.
لقد راح الباحثون يقلّبون أوراق السالفين للوصول إلى المعلّم الأول لفن الخط؛ فكانت الآية الكريمة  اقرأ وربُّك الأكرم، الذي علّم بالقلم( ).
هي المعْلَم الذي يأخذ بيد الباحث إلى أن الله سبحانه هو المعلِّم الأول لقوله: علّم بالقلم.
وقد تحدّث العلماء عن فضيلة الخط، وجمالياته، وأسباب انتشاره أو انحساره، وتطوره وجموده، وكتبوا في ذلك الكثير، فنحن نرى الأبجدية الإنكليزية تغزو العالم في القرون الثلاثة الأخيرة بسبب الغزو العسكري، بينما نجد الأبجدية العربية تنتشر في العالم منذ خمسة عشر قرناً بسبب نشر الدعوة الإسلامية وتقبّل الشعوب هذه اللغة لأنها لغة القرآن ولغة الإسلام، ووسيلة التفاهم بين الشعوب الإسلامية.
وقد عرّف العرب الخط فقالوا: الخط لسان اليد.
وأسلس حاجي خليفة العنان لقلمه فكتب يقول: (ما من أمر إلاّ والكتاب موكل به، مدبّر له، ومعبّر عنه، وبه ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل، وامتاز به عن سائر الحيوانات)( ).
ونظراً لقيمة الخط فإننا نرى الخطاط مثلاً يكتب الآية القرآنية، أو الحديث النبوي، أو الحكمة البالغة، فيزيد جمالها جمالاً في روعة خطه، وعصارة إبداعه، وإذا كانت اللوحة المخطوطة تحرك القلوب بنصّها، فإن الخطاط يهز مشاعر المشاهدين بجمال عطائه، ولذلك لم نجد خطاطاً واحداً كتب كلاماً سخيفاً ليزيّنه بجمال خطه، فالجمال لا يقع إلاّ على الجمال.
يقول الدكتور علي أرسلان –وهو خطاط وأستاذ بجامعة استانبول:
(يعتبر فن الخط، أصعب الفنون الإسلامية، وذلك لأن الفنان فيه لا يملك في يده غير القلم البسيط، وهذا القلم مسطرة الخطاط وبِرْجَلُهُ( ) . وهو قسطاسه الذي يعين به أحجام الحروف.
هذا القلم يقوم بأداء كل وظائف الآلات الأخرى التي يمتلكها الفنانون في سائر الفنون الأخرى. لذا تلزم الخطاط خصلتان رئيسيتان هما: القابلية وبذل الجهد)( ).
وبالإضافة إلى كون الخط فناً وذوقاً وجمالاً، فقد كان وما زال مورداً لرزق الكثيرين من الخطاطين والهواة، سواء في محلاّت في الأسواق أو تدريساً وتعليماً، أو تأليفاً وتحقيقاً.
ولذلك اعتبره الأدباء فناً ومورد رزق.
قال ابن المقفع: (الخط للأمير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال).
وقال أحد الشعراء:
تعلّم قوام الخط يا ذا التأدب
فما الخط إلاّ زينة المتأدّب

تعلّم قوام الخط يا ذا التأدب
وإن كنت محتاجاً فأفضل( ) مكسب

وهذه المزايا التي امتاز بها الخط العربي من جمال وكمال ومال، قد لا نجدها في خط آخر من خطوط العالم.
قال أبو تمام يصف جمال رسالة جاءته فأعجب بها:
مداد مثلُ خافية الغراب
وقرطاس كرقراق السراب

وألفاظ كألفاظ المثاني
وخط مثل وشم يد الكَعاب

كتبتُ ولو قدرت هوى وشوقاً
إليكِ لكنتُ سطراً في( ) كتاب

وقد امتاز الخطاطون العرب والمسلمون بالجمع بين جمالية المقروء وإبداعية الخطاط الفنان، بمعنى أنهم كانوا يختارون أجمل اللفظ فيودعون فيه أجمل ما لديهم من جمالية الخط وروائعه. وهم بهذا يزيدون جمال المعنى اللفظي جمال الخط، فيكون في ذلك إبداع الصورة والمعنى.
ولقد تحدث عن ذلك القلقشندي حيث جعل الإبداع في الجمع بين الشكل والمضمون فقال: (اللفظ إذا كان مقبولاً حلواً رفع المعنى الخسيس وقرّبه من النفوس، وإذا كان غثاً مستكرهاً وضع المعنى الرفيع وبّعده من القلوب.
كذلك الخط إذا كان جيداً حسناً، بعث الإنسان على قراءة ما أودع فيه، وإن كان قليل الفائدة، وإذا كان ركيكاً قبيحاً صرفه عن تأمل ما تضمنه وإن كان جليل الفائدة)( ).
وحين راح الخطاطون يتفنّنون في الخط فيلغزون فيه ويمشقونه مشقاً( ).بحيث يتحول الخط إلى طلسم ولغز يصعب معرفته، نبّه العلماء إلى ضرورة حسن البيان في الخط وإيضاحه، حتى أن ابن سيرين كان يكره أن يُكتب القرآن مشقاً، ويقول: (أجود الخط أبينَهُ)( ). وذلك لسهولة القراءة، ومن ثم لسرعة الفهم.


  






الباب الأول:

رحلة الخط العربي


1-في العصر الجاهلي
2-في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
3-في عصر الخلفاء الراشدين
4-في العصر الأموي
5-في العصر العباسي
6-في العصر الأندلسي
7-في العصر الفاطمي
8-في العصر العثماني
9-في إيران
10-في أوروبا








1- الخط العربي
في العصر الجاهلي


عرف العرب الخط منذ غابر العصور وقبل الأبجدية التي عثر عليها في أوغاريت (رأس شمرا) بآلاف السنين.
وقد عثر في الجزيرة العربية وفي أماكن مختلفة على كتابات عربية مدونة بخط (المسند) لذا اعتبره الباحثون والمؤرخون القلم العربي الأول والأصيل وهو خط أهل اليمن، ويسمونه خط (حِميَر).
وقد بقي قوم من أهل اليمن يكتبون بالمسند بعد الإسلام، ويقرؤون نصوصه، فلما جاء الإسلام كان أهل مكة يكتبون بقلم خاص بهم تختلف حروفه عن حروف المسند و دعوه (القلم العربي) أو (الخط العربي) حيناً و (الكتاب العربي) أو (الكتابة العربية) حيناً آخر تمييزاً له عن المسند.
(وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم، وصار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين، وحكم على المسند بالموت عندئذ، فمات ونسيه العرب، إلى أن بعثه المستشرقون، فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى، ليترجم الكتابات العادية التي دونت به). وجاء بعد الخط المسند الخط (الإرمي) نسبه إلى قبيلة إرم، وهو الخط الذي دخل الجزيرة العربية مع دخول المبشرين الأوائل بالنصرانية، حتى أصبح فيما بعد قلم الكنائس الشرقية.
وهناك القلم (الثمودي) نسبة إلى قوم ثمود.
والقلم (اللحياني) نسبة إلى قبيلة لحيان.
والقلم (الصفائي) الذي عرف بالكتابة الصفائية نسبة إلى أرض (الصفاة) وهي الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.
وقد ذكر الدكتور جواد علي رحمه الله أكثر من عشرين احتمالاً لأول من كتب بالحرف العربي( ).
وإذا كنا اليوم نفتقر إلى تركة تفصّل لنا كل شيء عن المدى الذي بلغه العرب عبر تواريخهم السحيقة، فإننا في نهم شديد إلى البحث لاستكمال ما عثر عليه الآثاريون من لوحات وخطوط وآثار تشير إلى الحضارة العربية في الجزيرة العربية، والحضارة لا يمكن أن تبدع في ناحية وتعقم في أخرى، فالشعب الذي يقيم السدود منذ آلاف السنين لا بد أنه استعمل القلم والمسطرة والفرجار والمثلث، ورسم الأبعاد والجوانب لِما همَّ به قبل الشروع في السدّ، ثم بدأ ما رسمه وكتبه على الورق بتنفيذه على الأرض.








المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام (8/234)



أشكال حروف المسند
المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام (8/220)


2- الخط العربي
في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

جاء الإسلام مع التطور السريع والنقلة النوعية لأمة تسود فيها الأميّة، وتنتشر فيها عقدة (الأنا) خلال فترة وصفها المؤرخون بـ (الجاهلية) فهي آخر ما امتلكه العرب من روح الحياة الحضارية والمدنية قبل الإسلام، فكان الإسلام نقطة البدء، وعودة الوعي للأمة التي امتلكت زمام الحضارة منذ آلاف السنين الخالية، فأصبحت تتنفس الصعداء بعد هذا الركام الطويل الذي غيّر كثيراً من معالمها، وطمس صفحات من تاريخها، أصبحت مجهولة لدى أبنائها، وأتعبت الباحثين في التنقيب عن أصالة الجذور، ورحلة الأصالة والتطور لهذا الحرف الذي كان نسياً منسياً، فكانت الآية الكريمة(اقرأ) صلصلة الجرس الذي نبّه النائمين أو حرّك مشاعر وأحاسيس الغافلين عن تراث هذه الأمة الذي عفا عليه الزمن.
صحيح أن القرآن الكريم وصف العرب بـ (الأمة الأُميّة) كما وصف الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم بـ (النبي الأُمي) وهذا الوصف للعرب لا يعني (التعميم) إنما يعني صفة الغالبية، ولا يعني بأميّة النبي صلى الله عليه وسلم صفة الجهالة والتخلف، إنما يعني الاعتزاز والثناء على شخص لا يحسن القراءة ولا الكتابة، ولم يتعلمهما عند من يحسنهما كما هو مألوف لدى الكثيرين من العرب وأهل مكة؛ ومع تلك الأميّة التي وصفه القرآن بها استطاع أن يصنع أمة متعلّمة، عالمة، داعية للعلم وآخذة بزمامه.
ومنذ أن نزلت أول آية وأول سورة من القرآن الكريم وهي سورة العلق وآية إقرأ( ). راح هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم يدعو للأخذ بزمام العلم، ويحث أصحابه على التعلّم، حتى أن الباحث في القرآن الكريم سيجد أن كلمة (علم) وردت مئات المرّات داعية إليه، أو حاثة على الأخذ به، أو مثنية على أهله.
من هنا نستطيع أن نقول إن الخطوة الفنية والجمالية الأولى للخط العربي بدأت مع بزوغ شمس الإسلام في غار حراء، حيث نزل جبريل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم:  إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم( ).
بعد ذلك دخل العرب إلى دنيا التقدم والإبداع، وقدّموا للعالم فنوناً لم تكن تخطر على بال أحد، فقد ألفت المجتمعات القديمة الفن في الصور والتماثيل، لكن العرب بعد الإسلام جعلوا الخط العربي فناً من الفنون، حيث يقف المشاهد مشدوهاً أمام لوحة الخط يتفحّص ويدقّق نظره في الجهد الذي بذله الخطاط، والدقّة التي وصل إليها من خلال جهود مضنية، ومقاييس متقنة للوصول إلى هذه اللوحة الرائعة التي هي (الخط العربي).
قلنا: إن نزول سورة العلق هي بداية الرحلة الرائعة التي انطلق منها الخط العربي، من خلال دعوة الإسلام للعلم، وحث الناس جميعاً ذكوراً وإناثاً للأخذ بزمامه.
وكان لآية إقرأ أبلغ الأثر في حثّ العرب على التقدم العلمي، والعلم الذي دعا إليه الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم قراءة وكتابة، وتجويد الكتابة في الفن والذوق، وهل أجمل من أن يكتب الكاتب سطراً على عظم أو جريد نخل أو رقائق حجرية ليحفظ لمن يأتي من بعده القيمة العلمية أو الفنية التي يتضمنها ذلك السطر!!.
إنه جهد كبير عاناه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتدوين القرآن، خلال ظروف قاسية.
لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الكتابة كما حث على القراءة، وحيث أن عصر الدعوة الأول هو بداية التأسيس، فقد انصبّت جهود الداعية الأول إلى كافة الجوانب لنشر الدعوة بين الناس في موطنها الأول مكة المكرمة، ثم نقلها إلى كافة الجزيرة العربية، ومن ثم تعميمها إلى الأقطار الأخرى.
نستطيع أن نقول: إن بداية إبداع الخط العربي بدأ في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك البداية المتواضعة طوّر الخطاطون خطوطهم فيما بعد. وقد ترك لنا هذا العصر عدداً من الرسائل التاريخية القيمة التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي في الحبشة، والمقوقس في مصر، وملك البحرين، وملك الروم في دمشق، وهي ذات قيمة تاريخية كبيرة.

3- الخط العربي
في عصر الخلفاء الراشدين

تطور المجتمع العربي الإسلامي في زمن الخلفاء الراشدين تطوراً ملموساً، وتغير تغيراً جذرياً، وأصبحت سيادة الدولة بدلاً من زعيم القبيلة، كما أصبح القانون مكان العرف والعادة، ونتيجة لذلك فقد دوّنت الدواوين، وأصبحت للخط مكانة، مما جعل رابع الخلفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحث على تحسين الخط وإتقانه، لأن المرحلة التي كانوا فيها تستدعي قوة الدولة الفتية، ونهضة العلم المتمثلة في البحث والتدوين، وإظهار الفن الإسلامي من خلال الخط العربي، مما يجعلنا واثقين أن الخط العربي (انتشر بنمو الإسلام وامتداده، ووصل في زمن قصير إلى جمال زخرفي لم يصل إليه خط آخر في تاريخ الإنسانية)( ).
فلما انتهت الخلافة الراشدة كان الخط قد برز كعلم وفن، له قواعده وأصوله، وأخذ يتحفّز لينطلق من الجزيرة العربية شرقاً وغرباً وشمالاً، مع سرعة الفتوحات الإسلامية في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتوسعها خلال الفترة الأموية.
لقد كانت بدايات النهضة العربية في زمن الخلفاء الراشدين، الذين أرسوا قواعد الدولة الفتية، وبدؤوا في التغيير الملائم، وحيث أن الحياة بدأت تتغير، فقد تغيروا بما يلائم الحداثة والعصر الجديد، فحين انتشر اللحن لاختلاط العرب الأقحاح بالعجم، رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يضع ضوابط للّغة العربية، وكانوا قبل ذلك لا يحتاجون إليها لسلامة نطقهم، ونقاء فطرتهم، فأوعز لأبي الأسود الدؤلي أن يضع تلك القواعد الثابتة في النحو.
إن هذا التطور في الخط العربي فرضته الظروف التي تغير العرب بسببها من حال إلى حال، ولو بقوا على ما كانوا عليه لما احتاجوا إلى وضع الحركات والشكل، وابتكار النُّقط التي ميَّزت بعض الحروف عن بعضها.

4- الخط العربي
في العصر الأموي
أحرز الخط في العصر الأموي تقدماً ملموساً على ما كان عليه في العصرين السالفين، عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، واستطاع أن يُبرز ولأول مرة الخطّاطَ، ومهنته إلى الوجود؛ رغم أن الحروف كانت خالية من النقط، وقد لمع نجم عدد من الخطاطين يأتي في مقدمتهم الخطاط الشهير (قُطبة المحرر) الذي ابتكر خطاً جديداً يعتبر مزيجاً من الخطين الحجازي والكوفي، وسمي هذا الخط بالخط (الجليل) حيث استعمله قطبة ومن عاصروه أو جاؤوا بعده في الكتابة على أبواب المساجد ومحاريبها.
ولم يكن خط (الجليل) هو كل ابتكار قطبة، ولكنه ابتكر عدة خطوط أخرى، أجاد فيها وأحسن منها (خطّ الطومار وهو أصغر من سابقه، وكذلك اخترع قطبة خط (الثلث) و (الثلثين) وذلك حوالي عام 136هـ)( ). وكان له فضل السبق في ذلك.
وخط الطومار يعني (خط الصحيفة) وجمعه طوامير، وقد سمّاه الأتراك خط (جلي الثلث).
وراح الخطاطون في العصر الأموي –ولأول مرة- يخطُّون خطوطاً جميلة تزين القصور والمساجد والخانات، ويكتبون بهذه الخطوط في سجلاّت الدولة الفتية ودواوينها الحديثة، فنالوا حظوة لدى الأمراء والخلفاء، وجعلوهم في صدارة مجالسهم، واستعملوهم في دواوينهم. وأصبحنا نرى هذه الخطوط الحديثة الجميلة في هذا العصر تزين القباب والمآذن والمساجد والقصور التي حُلِّيت بالفسيفساء والخشب المحفور والمطعم بالفضة والمعادن والزجاج، ليس في العاصمة دمشق فحسب، بل في أبعد المدن القاصية عنها والثغور، وهذا ما نراه واضحاً بعد أكثر من أربعة عشر قرناً في المسجد الأموي في دمشق، وقصر الحير الشرقي، وآثار رصافة هشام، ومحراب المسجد الأقصى وقُبَّته وغيرها.
كان الخطاطون في العصر الأموي يكتبون في سجلاّت الدولة بخط (الثلثين) الذي أطلقوا عليه لكثرة ما كتبوا به السجلاّت اسم خط (السجلاّت) (أما خلفاء بني أمية فكانوا يكتبون بخط الطومار وبالخط الشامي)( ).
وقد نشط عدد من الخطاطين في هذا العصر، لعبوا دوراً هاماً في النهوض بالخط كحركة فنية فتية يأتي في مقدمتهم:
1- خالد بن أبي الهيّاج. وقد كتب عدداً من المصاحف.
2- مالك بن دينار. الذي غلب عليه الزهد والورع فذكروه في عداد الفقهاء والمحدثين وتوفي سنة 131هـ (753م).
3- الرشيد البصري.
4- مهدي الكوفي.
ثم اشتهر خطاطون آخرون لا يقلّون عن سابقيهم شهرة وعدداً انتشروا في الأمصار البعيدة عن مركز الخلافة منهم:
1- (شراشير المصري.
2- أبو محمد الأصفهاني.
3- أبو الفرج.
4- ابن أبي فاطمة.
5- ابن الحضرمي.
6- ابن حسن المليح)( ).
لقد كان لخلفاء بني أمية الدور الأكبر في نهضة الخط العربي، ودفعه إلى الأمام لمجاراة النهضة الشاملة للدولة الإسلامية التي أرسوا أسسها، ليبني اللاّحقون لهم على أُسس المتينة.


5- الخط العربي
في العصر العباسي

ما كاد الخطاطون يتربعون على عرش الخط في دمشق حتى زلزل العباسيون عرش الخلافة الأموية فيها، فاتجهت أنظار الخطاطين والفنانين إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية، ومدينة الخلفاء العظام المنصور والرشيد والمأمون، وطبيعي أن يرحل إليها الخطاطون كما رحل إليها الأدباء والعلماء، ليكونوا أقرب إلى الخليفة والدولة وينالوا أجر إبداعهم من الخلفاء والأمراء والموسرين وغيرهم.
وإذا كان العصر الأموي عصر تأسيس وبناء، فإن العصر العباسي عصر ازدهار ورخاء وبذخ، وفي مثل هذا العصر لابد أن يزدهر كل فن، وينبغ كل من يمتلك أدنى ملكة فنيّة أو علمية.
لقد ذاعت شهرة الخطاط (الضحاك بن عجلان) في خلافة أبي العباس السفاح، والخطاط (إسحاق بن حماد) في خلافتي المنصور والمهدي، حتى (بلغ الخط في عهدهما أحد عشر نوعاً)( ).
وتعددت أقلام الخطاطين وخطوطهم في عهد هذين الخطاطين حتى كانت مضرب المثل في إظهار ملكتهم في الحرف العربي. فلما جاء عصرا الرشيد والمأمون نضجت العلوم والفنون والمعارف، وراح الخطاطون يجوّدون خطوطهم، وينافسون في ذلك، حتى زادت الخطوط على عشرين خطاً، منها المستحدث ومنها المطوّر، فقد طوّر الخطاط إبراهيم الشجري (الثلث والثلثين) أكثر مما ابتدعه الخطاط قطبة المحرر، وقبيل نهاية القرن الثالث اخترع الخطاط يوسف الشجري أخو إبراهيم الشجري خطاً جديداً سمّاه (الخط المدوّر الكبير) حيث أعجب الفضل بن سهل وزير المأمون، فراح يعمِّمه على جميع الكتب السلطانية الصادرة عن دار الخلافة، فأطلقوا عليه (الخط الرياسي) بينما انتشر عند سائر طبقات المجتمع باسم (خط التوقيع) وقد استطاع الخطاط الأحول المحرر البرمكي أن يأخذ عن إبراهيم الشجري، وأن ينجح في اختراع خط جديد اسمه (خط النصف) الذي تفرعت منه خطوط جديدة فيما بعد)( ).
وجاء أبو علي محمد بن مقلة الوزير (272-328 هـ) فضبط الخط العربي، ووضع له المقاييس، ونبغ في خط الثلث حتى بلغ ذروته، وضرب به المثل، وحسده الآخرون.
كما أحكم خط المحقق، وحرر خط الذهب وأتقنه، وأبدع في خط الرقاع وخط الريحان، وميَّز خط المتن، وأنشأ الخط النسخي الحاضر وأدخله في دواوين الخلافة، وقد ترك ابن مقلة في الخط والقلم رسالته الهندسية( ).
وقد زاد ابن مقلة في الأوساط الفنية كخطاط أنه كان وزيراً لثلاثة خلفاء، ولفترات مختلفة، فقد كان وزيراً للمقتدر، وللقاهر بالله وللراضي بالله.
وحينما غضب عليه الخليفة، قطع يده اليمنى لكنه لم يترك الخط، بل كان يربط على يده المقطوعة القلم حينما يشرع في الكتابة، ثم أخذ يكتب بيده اليسرى فأجاد كما كتب بيمناه.
واستمرت رياسة الخط لابن مقلة حتى القرن الخامس، فاشتهر علي بن هلال (المعروف بابن البوًَّاب) والمتوفى سنة (413 هـ) فهذّب طريقة ابن مقلة في الخط، وأنشأ مدرسة للخط، واخترع الخط المعروف بالخط (الريحاني)( ).
ولو أردنا سبر المصاحف التي خُطَّت في العصر العباسي لتبيّن لنا أن معظمها (ترجع إلى القرن التاسع الميلادي، وهي مكتوبة على الرِّق بلونه الطبيعي، أو الملوّن الأزرق والبنفسجي أو الأحمر، وبمداد أسود أو ذهبي، وتظهر الحروف الكوفية فيها غليظة ومستديرة وذات مدَّات قصيرة، وجرَّات طويلة( ).
وبلغت الخطوط في أواخر العصر العباسي أكثر من ثمانين خطاً وهذه الكثرة شاهد على تقدم الفن والزخرفة إلى جانب الخط. وظهر في العصر العباسي خط اسمه (الخط المقرمط) وهو خط ناعم، حتى راح الخطاطون يتفنَّنون في رسم المصاحف رغم صغر الحجم، فهم يزوّقونها، ويعتنون في جميع صفحاتها التي قد تصل إلى أدنى من (6×8 سم) وقد استطاع الخطاط أن يبري قلمه إلى جزء من المليمتر.
ولم يكن الخط العربي وقفاً على الرجال في العصر العباسي، بل نجد المرأة تبرز في هذا المضمار الفني العريق، ففي القرن التاسع الميلادي كانت هناك امرأة برزت في النسخ وجودة الخط، فأعجب بها أحمد بن صالح وزير الخليفة المعتضد، وكتب عن براعتها ما يلي: (كان خطها كجمال شكلها، وحبرها كمؤخر شعرها، وورقها كبشرة وجهها، وقلمه كأنملة من أناملها، وطرازها كفتنة عينيها، وسكِّينها كوميض لمحتها، ومقطَّتها كقلب عاشقها)( ) حقاً لقد بلغ الخط في العصر العباسي ذروته.


عن كتابخانة عمومي حضرت اية الله مرعشي نجفي(ص63)


6- الخط العربي
في العصر الأندلسي

لم تكن شبه الجزيرة إيبريا (إسبانيا) شيئاً مذكوراً قبل الفتح العربي الإسلامي لها، ولم يكن فيها من الفنون ما يشجع الباحث لشدّ الرحال إليها لدراسة ما فيها من فنون وزخارف. رغم كونها بوابة البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى الشرق الحافل بالفنون منذ القديم، ورغم كونها ذراع أوروبا الممتد نحو أفريقيا والوطن العربي وأوروبا نفسها.
وإذا ما قيس واقعها قبل الفتح العربي الإسلامي لها إلى ما آلت إليه بعده، نجد البون واسعاً، والمسافة طويلة. فقد أصبحت تحمل اسم الأندلس، وأصبحت آية في الجمال والذوق الفني، مما شجع الإسبانيين أنفسهم للتخلّي عن لغتهم الأم، والإقبال على اللغة العربية التي أصبحت لغة العلوم ولغة العصر يومذاك، فهم ينهلون منها بشغف زائد، ويحرصون على تعلمها لأنها أصبحت لغة الثقافة العالمية.
وكان اهتمامهم في هذا المضمار واسعاً، فقد أهملوا لغتهم الأصلية وأقبلوا على اللغة العربية بعشق منقطع النظير، فتركوا قراءة الكتب المقدسة بغير لغة الضاد، واعتبروا اللغة اللاتينية، لغة ثانية، واللغة العربية هي اللغة الأم، إذ ترجمت التوراة والإنجيل للعربية، وبها قرئت في الكنائس. لقد كان دخول العرب المسلمين إلى إسبانيا انقلاباً جذرياً في عالم الثقافة والفكر، ومع دخول الإسلام إليها دخلت في عالم الحضارة والمدنيّة.
دخل الحرف العربي إلى كافة مرافق الحياة، فهو في سطور الكتاب، وهو في زخارف اللوحات، وهو في زخارف البيوت والمساجد ومراكز الولاية، وقصور الحكام، والأمراء والسلاطين، وهو في الكنائس والكاتدرائيات، وبه يقرأ المسلم القرآن في صلاته، والنصراني في إنجيله، واليهودي في توراته، وأصبح الأدباء والشعراء والمؤرخون والفنانون من الأديان الثلاثة يكتبون به، وكما دخل الخط الكوفي الأندلسي إلى المساجد فقد دخل الكنائس النصرانية والبيعَ اليهودية عن رغبة وشوق زائدين، لأن غير المسلم وجد فيه وسيلة للثقافة، ودفعاً للفن الرفيع.
وازدهرت الأندلس، ونسي المجتمع الذي عاش فيها متآخياً قروناً طويلة اللغة التي كانت سائدة في الأندلس قبل دخول المسلمين إليها، مما دفع ملوك أوروبا إلى إرسال أولادهم إلى جامعات الأندلس لتعلّم العلوم، والعودة بعد إتقانها إلى بلادهم، مما جعلهم يبذرون في أوروبا بذور العلم لنهضة تتناول كافة وجوه الحياة. ولكن بعد قرون من دخول العرب إلى الأندلس. وهذا ما جعل كبار المفكرين والمؤرخين يفخرون بالتغني بأيام العرب في الأندلس وإطلاق الحسرات على تلك الأيام، فيما نقلته زيغريد هونكه حيث قالت: (على بساط من نبات المسك والعنبر يتثنَّى، وتصفّر الريح خلاله، كانت أقدامنا تسير)( ).
واستمر الحرف العربي في الأندلس ثمانية قرون، كان خلالها مثالاً يحتذى للنهضة العلمية الرائعة التي خلّفها العرب في الأندلس، والتي أصبحت فيما بعد أنموذج المجتمع الإسلامي المثالي لمن أراد أن يعمل بروح الإسلام. وكانت الابتكارات الكثيرة، والاختراعات العجيبة.
وكان من بين تلك الاختراعات آلة الطباعة الحجرية التي كانت مستعملة في القرن التاسع عشر (فقد كان لعبد الرحمن كاتب اعتاد أن ينشئ الرسائل الرسمية في منزله، ثم ينفذها إلى ديوان خاص يصير فيه إظهارها على الورق، وهو نوع من الطباعة فتصدر في نسخ متعددة، توزع على عمال الدولة)( ).
وانتعشت أسواق الكتب في سائر المدن الأندلسية، وأصبح في كل مدينة سوق لبيع الكتب ومزاد لبيع الكتب بالمزاودة (بازار) وأصبح المخطوط العربي تحفة من التحف التي يزيّن بها الأثرياء قصورهم، ومادة أساسية لطلاب العلم الذين جعلوا غرفة في بيوتهم ذات رفوف وخزن كمكتبة خاصة لهم.
إضافة إلى عشرات المكتبات العامة في كل مدينة، يرتادها الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء.
وكانت أجمل هدية يتلقاها الملك فريدريك الثاني من أبيه ثياباً جميلة مطرّزة الأذيال والأردان بخط عربي بديع واضح، يقول فيه الخطاط بعد أن انتهى من نسجه وتطريزه: (بمصنع الملك مقر الشرف والحظ السعيد، مقر الخير والكمال، مقر الجدارة والمجد، في مدينة صقلية عام 528هـ)( ).
وهل اكتفى هذا الخطاط العربي بإتقان الخط العربي على لباس الملك الصقلي؟!
لقد رسم الفنون العربية أيضاً في بيئة لا تعرف أمثالها، فقد أملى عليه ملك صقلية روجر الثاني ابن الكونت روجر الأول الذي طرد العرب من صقلية بعد أن بقي العرب في هذه الجزيرة قرابة قرنين ونصف قرن، أمر الملك الخطاط العربي أن يرسم له على ثوبه صورة لأسدين يضربان جملين فيصرعاهما وذلك يرمز إلى أن الملك الصقلي الذي رمز له بصورة الأسد انتصر على الحاكم العربي المسلم الذي رمز له بصورة جمل( ).
أصبح الكتاب العربي في كل بيت، وأصبح المخطوط العربي في كل مكتبة، ولا يمكن أن يخلو شارع من شوارع غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية من مكتبة عامة تقدم كافة الخدمات لمرتاديها.
وظل الملوك الذين حكموا الجزيرة بعد خروج العرب وانتهاء الدور الإسلامي فيها يسكّون النقود الإسبانية بحروف عربية، ويزينون ملابسهم بالخطوط العربية المذهبة والمطرّزة، مع أن الواقع يفرض عليهم أن ينهوا كل ما يشير إلى الوجود العربي والإسلامي في الجزيرة بعد انتصاراتهم على ملوك الطوائف وغياب شمس الإسلام، لكن الواقع المعاش يومذاك والحضارة التي تركها العرب لم تكن بالأمر الهيّن الذي يتنكّر له الملوك والعامة من غير المسلمين، فهم قد طردوا عنصراً عربياً، وطردوا ديناً يختلف عن طقوس دينهم، ولكنهم احتضنوا حضارة راحوا يعتزون بها ويفخرون، ويورثون هذه الحضارة لأولادهم وأحفادهم إلى الآن، فهم يعتبرونها أماكن أثرية إسبانية، كما يعتز العرب الآن في الآثار الرومانية التي خلفها الرومان يوم كانوا يسيطرون على بلاد الشام قبل الفتح الإسلامي.
إن الخط العربي في الأندلس لا يزال رغم مرور أكثر من ألف عام يحكي قصة الفن والإبداع العربي والإسلامي الذي توصّل إليه الخطاط والفنان المسلم في الأندلس حين وجد البيئة المناسبة للإبداع والنبوغ، وحين كان التقدم والعطاء المستمر ديدن كل مبدع، مما يجعلنا حين نقف على ما خلّفه العرب في الأندلس من آثار رائعة نقول: من هنا مرّت الحضارة العربية الإسلامية، ومن هناك عبرت الحضارة الإسلامية إلى أوربا. وفي هذه الأرض المعطاء انتعشت البذور الغضة التي زرعها المفكرون العرب قبل دخولهم إليها وبعده.

***

الخط العربي (42)



7- الخط العربي
في العصر الفاطمي
اعتنى الفاطميون في مصر بالخط العربي عناية كبيرة، قد كتبوه على المآذن والقباب والأروقة وقصور الخلفاء، وأضرحة العلماء، وزيّنوا به واجهات الحمامات والمكتبات العامة ومضامير الخيل وواجهات السجون، والأماكن العامة، وظهر في مصر الخط الفاطمي، والخط الكوفي الفاطمي، وامتاز كل منهما بهوية خاصة، اختلفا عن غيرهما من الخطوط الأخرى.
لاشك أن مصر ازدهرت خلال العصر الفاطمي ثقافياً، وانتعش الكتاب صناعة وزخرفة وتجليداً وتذهيباً وتسويقاً. بل إن المبدعين استطاعوا خلال العصر الفاطمي أن يخترعوا قلم الحبر السائل الذي امتاز بخزّان صغير للحبر وله ريشة، وهو لا يختلف عن أقلام الحبر السائل الحديثة، وقدّم مخترعه هذا القلم للخليفة الفاطمي هدية، لكنه لم يعممه ولم يصنع منه أقلاماً أخرى ويبيعها لسائر الناس، لأن المجتمع المصري كان يحفل بأنواع مختلفة من أقلام الخط الدقيقة الصنع؛ التي تبلغ ريشتها جزء من عشرة من السنتيمتر الواحد، والتي خطّوا بها مصاحف صغيرة جداً توضع في الجيب، أو ربما تعلق بالحلق.
استمرت فترة الخلافة الفاطمية أكثر من مائتي سنة (359-566هـ) وكان عصر المعز لدين الله الفاطمي عصراً ذهبياً لهذه الفترة، وهو الذي كتب بقلم الحبر السائل.
ولا تزال قصور الخلفاء والأمراء الفاطميين تحكي قصة الفن الذي توصل له الخطاط والنقاش والنحّات في ذلك العصر، بل إن المآذن التي أقيمت خلال تلك الفترة تعتبر اليوم من روائع البناء الإسلامي. (وكان منطلق الخط في مصر "ديوان الإنشاء" وكان لا يرأس هذا الديوان إلاّ أجلّ كتاب البلاغة، ويلقب بـ "كاتب الدست الشريف")( ).
وكان المحمل الذي يتقدم قوافل الحجيج المصريين- والفاطميون من أوائل من ابتدع المحمل الشريف- حيث كان يزدان بالخطوط الذهبية الرائعة، والزخارف الإسلامية الجميلة، بحيث أن من يقود ذلك الجمل يزداد شرفاً، ويحمل لقباً، ويورث ذلك لأحفاده من بعده.
وقبيل انهيار الدولة الفاطمية واستلام الناصر صلاح الدين مقاليد الأمور في مصر، تبعثرت المكتبات الكبرى فيها ونتيجة للتعصب المذهبي.. فقد تحدث المقريزي في خططه عن المكتبات الفاطمية الكبرى التي ذهبت أدراج الرياح بعد استيلاء صلاح الدين على السلطة في القاهرة، وأن الكتب شكّلت أكواماً خارج المدينة، وأن الغلافات الثمينة استعملها الجنود الأتراك أحذية لهم( ).
فلا غرابة أن نجد الذين استولوا على الحكم بعدهم كالأيوبيين الذين حكموا مصر والشام واليمن من عام 1169م إلى عام 1260م والمماليك على اختلاف جنسياتهم الذين حكموا مصر وبعض الشام من عام 1250 إلى عام 1517م لا ينسون فضائل الدولة الفاطمية التي كانت راعية للعلم والعلماء ومشجعة أهل الإبداع، ويتخذون من مبدعي وفناني الدولة الفاطمية أساتذة لهم.

8- الخط العربي
في العصر العثماني
ورث العثمانيون الخط عن مدرسة تبريز التي ازدهرت ليس في الخط فحسب، وإنما في صناعة الكتاب أيضاً، بل ونشطت فيما يتعلق بالكتاب من صناعة الورق والكرتون والخط والزخرفة والتجليد والرسوم والتذهيب وغير ذلك. وكان لأساتذتهم الإيرانيين الفضل في هذا التفوق الذي أحرزوه، فصاروا لهم أنداداً، وصار الأتراك يمثلون مدرسة مستقلة ذات شهرة متميزة في خط الثلث، ولكبار الخطاطين الأتراك مصاحف كثيرة محفوظة إلى الآن في المتاحف التركية، وخاصة في متحف الأوقاف في استانبول، حيث أضافوا إلى هذا الخط الجميل زخرفة وتجليداً أنيقين.
وراح خطاطو الأتراك يبدعون في خط المصاحف الصغيرة التي توضع في الجيب، وحيث أن الدولة العثمانية دولة خلافة إسلامية سنيّة فإنها شجعت على انتشار الخط العربي بأنواعه، بحيث (انتحل الترك أنفسهم الخط العربي، ولا تجد في تركيا إنساناً على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة)( ).
ونال الخطاطون احترام الخلفاء، فنالوا منهم الحظوة، وأغدقوا عليهم العطايا، وجعلوهم من المقربين منهم، وأسندوا لهم العمل في الدواوين التابعة للدولة، وبرواتب عالية. لكنهم رغم هذا الاحترام والإكرام لم يبلغوا ما أوصلهم إليه العرب من مكانة حين عيّنوهم في مناصب وزاوية مراراً كما حدث للخطاط ابن مقلة مثلاً.
لقد امتلأت مساجد الخلافة العثمانية بالخطوط الرائعة، والزخارف الجميلة لكبار الخطاطين الأتراك، وغير الأتراك الذين استقطبتهم دار الخلافة العثمانية للعمل في عاصمة الدولة برواتب عالية.
وفي الفترة المتأخرة لهذه الخلافة برز خطاطون طبّقت شهرتهم العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وخلدوا لنا لوحاتهم الرائعة.
أولهم : الخطاط الشيخ حمد الله الأماسي الذي يعتبر إمام الخطاطين الأتراك.
الثاني : الخطاط الحافظ عثمان الملقب جلال الدين الذي كتب خمسة وعشرين مصحفاً بيده. وقد طبع مصحفه الشريف في سائر البلاد العربية والإسلامية، وخاصة في دمشق فقد تبنّته مطبعتان عريقتان هما مطبعة الملاح والمطبعة الهاشمية، ولأكثر من نصف قرن طبعتا عشرات الطبعات بعضها مهمّش بتفسير الجلالين، أو أفردوا أجزاءه في طبعات مستقله.
الثالث : الخطاط رسا الذي خط لوحات في المساجد التركية، ومساجد بلاد الشام وغيرها لا تزال باقية لوحاتها المعدنية أو المرقومة على الجدران الجصية أو المنحوتة على الرخام.
إن العصر العثماني هو عصر نضوج الخط العربي في العصور المتأخرة، ونستطيع أن نسميه العصر الذهبي للخط العربي وذلك لأسباب كثيرة منها:
1- أن الدولة العثمانية دولة واسعة المساحة، جمعت الجنسيات والألسن والألوان البشرية المختلفة تحت مظلة الإسلام.
2- أن فترة حكمها طالت حتى بلغت أربعة قرون.
3- كانت تعتبر التصوير حراماً، لذلك شجّعت الخطوط والزخارف والنقوش لسد فراغ تحريم التصوير.
4- كان الخلفاء يقربون منهم العلماء والأدباء والمبدعين، ويستقطبونهم إلى عاصمة خلافتهم، ويغدقون عليهم المنح والعطايا المختلفة، بل نجد بعض الخلفاء قد تتلمذ على أيدي الخطاطين، وأخذوا عنهم مبادئ الخط العربي.
5- كان (خطاط السلطان الخاص يتقاضى أربع مائة ليرة عثمانية ذهباً في الشهر)( ).
6- بلغ الشعب التركي من الترف ما جعل ذوي الإبداع يعملون في قصورهم النقوش والزخارف والرسوم بمبالغ عالية.
7- استطاع الخطاطون الأتراك في ظل تكريم الدولة لهم، وإغداقها العطايا عليهم، أن يبتكروا خطوطاً جديدة كالرقعة والطغراء والديواني وغيرها.
فلا غرابة أن نجد كبار الخطاطين الأتراك يتظاهرون في شوارع العاصمة استانبول استنكاراً لاستقدام أول مطبعة للدولة العثمانية وهم يحملون محابرهم وقصباتهم في نعش، ويطوفون بها شوارع المدينة( ) لقناعتهم أن الآلة الطابعة ستقضي على روح الإبداع والجهد الفردي الذي يزاوله الخطاطون.
وبرزت في ساحة الخط العربي في تركيا أسماء خطاطين احتلوا الصدارة إلى الآن منهم: سامي (1330هـ) وعبد الله الزهدي (1296هـ) وإبراهيم علاء الدين (1305هـ) ومصطفى نظيف (1331هـ) وحامد الآمدي (1980م) وحقي (1365هـ) ومحمد أمين (1372هـ) ومصطفى أرقم، وإسماعيل زهدي شقيق الخطاط راقم ومصطفى عزت، ومحمد شوقي، وأحمد كامل، ومحمود يازر، وعبد العزيز الرفاعي وغيرهم.
إن رحلة الخطاطين الأتراك مع الخط العربي رحلة طويلة، أظهروا من خلالها مقدرتهم الفنية في رفد الخطوط العربية القديمة بخطوط عربية من ابتكارهم حملت أسماءهم. وسيبقى تاريخ الخط العربي يفخر بما قدّمه الأتراك من خدمات جلّى لهذا الفن البديع.







9- الخط العربي في إيران
استطاع الفنانون الإيرانيون أن يبدعوا في الفن التصويري لمضامين المخطوطات الفارسية والعربية، كما نجحوا في تجويد الخط وتحسينه وتطويره، فقد امتاز الخطاط الإيراني بالجودة والإتقان، وكان في أغلب أحيانه مبدعاً في لوحاته، مبتكراً في إنتاجه، عبقرياً في بحثه العميق.
ابتكر الخطاطون الإيرانيون الخط الفارسي في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). ثم ابتكروا خط (النستعليق) من الخط الفارسي والنسخ والتعليق، وكان هذا الابتكار بجهود الخطاط الكبير عماد الدين الشيرازي الحسني، إذ وضع له قاعدة اشتهرت باسمه فيما بعد فسمّيت (قاعدة عماد).
كما حوّروا الخط الكوفي (فأصبحت المدّات فيه أكثر من الجرّات)( ).
واشتهرت مدينة مشهد بخط النستعليق حتى كادت أن تسبق جميع المدن الإيرانية، ووقفت مشدوهاً أمام تلك الخطوط في هذه المدينة وخاصة في جامع الإمام الرضا ذي القباب الذهبية في ربيع عام (1416هـ 1996م) خلال زيارتي الأولى لإيران.
وقد رأيت إبداعات أولئك الخطاطين الإيرانيين في مشهد تفوق ما قدّم غيرهم، فالخطوط التي نقشت على القباب والمآذن تحكي قصة الإتقان والجودة. وقد أجاد الخطاطون في نقش الخطوط وزخرفتها على قطع السيراميك في شوارع المدينة على كثرتها، بحيث يرى السائر فيها أنه في متحف مفتوح للخط العربي.
أما مدينة أصفهان التي يقول أهلها أنها (نصف جهان) أي نصف العالم فهي عاصمة الدولة الصفوية التي خلفت لنا خطوطاً ولوحات وزخارف يعتز بها كل مسلم، ويحق لهذه المدينة أن تتربّع على عرش الفن الإسلامي، برسومه، وخطوطه، وزخارفه. وذلك من خلال ما خلّفوه لنا من أوابد أصبحت بالنسبة لنا متاحف مفتوحة للمشاهدين والزوار.
من هذه الأماكن الأثرية التي احتوت خطوطاً رائعة:
1-الجامع الكبير في أصفهان (جامع الإمام).
2-جامع لطف الله.
3-الأربعون عموداً.
4-الجسور الكثيرة المنتشرة على نهرها الكبير (زينده رود) مثل جسر خاجو. وشاهدت براعة الخطاط الإيراني الفنية قبل أن يكون خطاطاً في القباب والمآذن، والإيوانات والجسور، والحوزات، والمدارس، مما يجعل الباحث والزائر لهذه المدينة التاريخية يشهد لها بالفن والإبداع.
وقد اهتم شاهات فارس وأمراؤها بالخط (فقد أنشأ الوزير المغولي رشيد الدين ضاحية سماها (ربع رشيد) كذلك أصبحت هراة في عهد الصفويين عاصمة الخط والتصوير، وكان بهزاد معلم التصوير، وموجه الخطاطين)( ).
ولم تقتصر أمور الخط والإبداع على الخطاطين الذين اعتمدوا الخط فناً ومهنة، بل تعدّتهم إلى الأمراء والحكام وذوي السلطان، فقد كانوا يجدون في النسخ والخط شرفاً وبركة ومجداً. فهم يعتزون بنسخ القرآن الكريم مسترشدين بتوجيهات كبار الخطاطين مثل (عضد الدولة البويهي، والشاه طهماسب، بل كان الأمراء منهم-الفرس- يتسابقون لمساعدة الخطاطين بأن يمسكوا لهم بالمحبرة. أو يقدموا معونة بوضع الوسائد بمكانها، أو بإمساك الشمعدان)( ). وكأنهم بهذا الاحترام الزائد يقلدون أبناء ملوك العرب كالأمين والمأمون اللذين كانا يتسابقان لتقديم حذاء معلمهم ومؤدبهم الكسائي.
حقاً لقد أجاد الخطاط الإيراني أكثر مما نال من حظوة الشاهات والأمراء، وذلك لأن طبعه الفني مغروس فيه ومتوارث، فهو لا يتهالك من أجل أن يتقرّب بخطوطه وفنه من الأمراء، وما حدث من ذلك فأمر عارض، لا يقصد به صاحبه أكثر من إيصال فنه وإبداعه إلى كبار المسؤولين في الدولة.

خط التعـليق



10- الخط العربي في أوربا

دخل الخط العربي إلى أوربا من عدة محاور، وكان في كل مرة يحمل طابعاً يختلف عن سابقه، لأن ظروف دخول الخط تختلف في الزمان والمكان.
1-عن طريق آسيا الوسطى وبعد دخول العثمانيين مدينة القسطنطينية.
2-عن طريق الحملات الصليبية المتكررة على مشرق العالم العربي ومغربه، براً وبحراً ومن دول مختلفة في اللسان والمذهب والقومية من أوربا.
3-عن طريق الأندلس بعد الفتح العربي الإسلامي لها وانتشار الجامعات الكبرى فيها ودخول أبناء ملوك أوروبا فيها، ونقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عن طريقها.
4-عن طريق صقلية حيث دخل العرب المسلمون إلى إيطاليا وحاصروا روما، وساحوا في كثير من مدن الدولة الرومانية.
وبذلك أصبحت أوروبا مدينة للعرب الذين أوصلوا لها الثقافة والمعرفة والعلوم إلى جانب الخط، واللوحة الفنية، والنقطة الحسابية(الصفر).
وأكثر ما نجد ذلك في أبواب ونوافذ الكنائس والكاتدرائيات، وقصور الملوك والأمراء والنبلاء للزينة، وذلك في صقلية وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، ودخلت كثير من هذه الخطوط متاحف روما وباريس وفيّنا وأمستردام، وهذا ما دعا الكاتب الفرنسي مارسيه لأن يعترف بفضل العرب في الخط والفنون على أوروبا حيث يقول: (لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية شديدة التغلغل في عالمنا، حتى أن العناصر الإسلامية طغت منذ نهاية القرن الحادي عشر في واجهات الكنائس الرومية، ثم رأيناها فيما بعد تختلط في الكنائس القوطية مع العناصر الواردة من فرنسا)( ).
وقد امتدت فتوحات العثمانيين إلى وسط أوروبا، بل تعمقوا فيها غرباً فوصلوا سويسرا، وأشادوا القلاع والحصون، وتركوا آثاراً وبصمات عربية اللسان والحرف، لكنها عثمانية تركية المنشأ، ومن يزور متاحف أوروبا يقف مبهوتاً في كل متحف لتلك الخطوط الرائعة والتحف الشرقية المزخرفة التي نقلها الصليبيون أو لصوص الآثار أو تجارها إلى متاحف تلك المدن الكبيرة، وهي في أًصلها من دمشق وبغداد والقاهرة وإيران.
وقد شهدت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة بعظمة الخط والفن العربي في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب، الذي ينطق بكل حرف فيه بمقدرة الإنسان العربي والمسلم على استمرارية العطاء الفني من خلال رسم الحرف العربي واللوحة الزخرفية سواء في مسجد أو متحف أو حمّام أو قبة ضريح، أو ثياب ملك.







الباب الثاني :

أنواع الخط العربي


1-الخط الكوفي
2-خط الرقعة
3-خط النسخ
4-خط الثلث
5-الخط الفارسي
6-خط الإجازة
7-خط الديواني
8-خط الطغراء
9-خط التاج
10-الخط المغربي







سار الخط العربي في رحلة حياته مسيرة طويلة، فقد نشأ نشأة عادية وبسيطة، ثم تطور مع تطور الحياة. وإذا ما حاولنا دراسة هذه الرحلة تبين لنا أن مسيرته قبل الإسلام كانت بطيئة جداً بينما نجده يقفز قفزات سريعة بعد الإسلام ويصل إلى درجة الإبداع، حيث تناوله الخطاطون بالتحسين والتزويق، وأضفوا عليه من إبداعهم جماليات لم تخطر على بال فنان سابق، لِما صبُّوا في الحرف العربي من قواعد ثابتة، وأصول يجب على الخطاط أن يلتزم بها ليكون خطاطاً ناجحاً.
وقد استطاع الخطاط العربي أن يبتكر خطوطاً جديدة من خطوط أخرى فهذا ابن مقلة يبتكر خط الثلث، لقد اشتقه من خطّي الجليل والطومار، وسمّاه في أول الأمر (خط البديع)( ) وقد استطاع أن يحسّنه ويجوّده حتى فاق فيه غيره، واشتهر بنيل قصب السبق فيه إلى عصرنا هذا، ولم يتجرّأ خطّاط أن يتقدمه، فاعتبره الخطاطون فيما بعد مهندساً للحروف العربية، لأنه قدّر مقاييسها وأبعادها بالنقط، فلكل حرف أبعاده الثابتة، ولكل بُعد نقطه المحدّدة التي لا يجوز تجاوزها.
ثم جاء ابن البواب فزاده جودة وجمالاً، وأسبغ عليه من ذوقه.
واستطاع الخطاط التركي ممتاز بك أن يبتكر خط الرقعة من الخط (الديواني) وخط (سياقت) حيث كان خط الرقعة خليطاً بينهما.
وقام الخطاط مير علي سلطان بتطوير وتحسين خط الإجازة.
وبرع الخطاط عثمان في الخط الديواني وفاق مبتكريه أيام السلطان محمد الفاتح.
وهكذا استمرت رحلة الخط جودة وتطويراً، وابتكاراً حتى كان الخط الحديث الذي ظهرت له الآن نماذج كثيرة خالية من القواعد والضوابط.
وقد سميت الخطوط العربية بأسماء المدن أو الأشخاص أو الأقلام التي كتبت بها، وقد تداخلت هذه الخطوط في بعضها، واشتق بعضها من الآخر، وتعددت رسوم الخط الواحد، فكانت لكثرتها تشكل فناً من الفنون التي أبدعها الخطاطون العظام كالخط الكوفي مثلاً، وقد تطورت هذه الخطوط نتيجة إبداع المهتمين بها والمتخصّصين بكل خط منها، فبلغت ذروتها لدى المت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
فؤاد نور الاسلام
كبارالشخصيات

كبارالشخصيات
فؤاد نور الاسلام


ذكر
الدولة : الجزائر
تاريخ الميلاد : 01/01/1977
مبرمج
الجزائر
التقيم : 48
عدد المساهمات : 3242
نقاط : 363298266
تاريخ التسجيل : 15/10/2012

رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث   رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث I_icon_minitime06.03.13 20:37

[b]................... يتبع ...............


7- خط الديواني
يسمى هذا الخط (الخط الهمايوني) كما يسمى (الخط الغزلاني)، نسبة إلى الخطاط المصري (غزلان)..
ويعتبر الخط الديواني من الخطوط الجميلة، ولذلك اختاره الخطاطون في دواوين الملوك والخلفاء والرؤساء في المراسلات الداخلية والخارجية، كما استعمله الخطاطون للبطاقات الشخصية، والمستندات والشهادات، والمعايدات، ولوحات التحف الفنية والنحاسية وغيرها..
ولا يحتمل هذا الخط التشكيل، وله ميزة باستقامة سطوره من الأسفل.
وقد اعتبره الخطاطون من الخطوط المطاوعة، إذ امتاز بطواعية حروفه بأقلام خطّاطيّه، فهي ليّنة، وتكتب دائرية.
لقد ابتكره الخطاطون الأتراك، وبرعوا فيه وأجادوا، وأدخلوه في قصور خلفائهم، وجعلوا حروفه ملتوية جميلة، مما يبهر العين ويبهج القلب، وينهش النفس الذواقة.
عرف هذا الخط في (عهد السلطان محمد الفاتح سنة (857هـ)، وهو الخط العربي الفني الرشيق السهل، تكتب به الكتب السلطانية، وبرع به الخطاط عثمان، ومن أنواعه : الجلي الديواني، والسنبلي).( )
وقد استطاع الخطاطون أن يبتكروا من هذا الخط خطوطاً أخرى( ) منها.
1 ـ الخط الديواني المترابط: تتشابك في هذا الخط الحروف والكلمات، وقدأبدع في هذا الخط الخطاط المصري (غزلان) فكتب فيه لوحات رائعة، وأطلق على هذا الخط (الخط الغزلاني) لبراعته فيه.
2 ـ الخط الديواني الجلي: ابتكر هذا الخط العثمانيون، وبرع فيه الخطاط (شهلان باشا) وسمي بجلي الديواني لوضوحه وجلاء حروفه وبيانها. وقد كتبت فيه المراسيم الملكية (الفرمانات) والرسائل الموجهة إلى الدول الأجنبية.
ويعتبر هذا الخط من الخطوط الجميلة التي تكثر فيها النقاط والأوراق والأغصان، كما أن حروفه تتداخل بين بعضها، وتمتلئ الفراغات بين الحروف بهذا النوع الفريد من النقاط كتشكيلات زخرفية رائعة. ويكاد في بعض الأحيان أن يكون طلسماً عند غير الخطاطين، فلا يستطيعون قراءته.
وقد (ابتكره الخطاط التركي البارع إبراهيم منيف عقيب فتح القسطنطينية، وسماه (جلي الديواني) أو (خفي الديواني).( )
واستعمله الخطاطون في مجالات الترف والزينة، وكتبت به المستندات والصكوك، والشهادات العلمية، والعملات الورقية، والبطاقات الشخصية أحياناً، وكان العثمانيون قد استعملوه بعد فتح القسطنطينية لشيوعه في السجلات الرسمية والدواوين، وقد كاد أن يكون خاصة لكبار الحكام والوظائف العالية الرفيعة.
وتظهر جمالية هذا الخط في السطر أكثر منها في الكلمة:
(أشهر من كان يكتبه من الخطاطين المعاصرين النابغة المرحوم هاشم محمد البغدادي والشيخ عزيز الرفاعي بمصر، والشيخ نسيب مكارم في لبنان).( )
3 ـ الخط الديواني الجلي المحبوك: حيث جعل الخطاط نسبة الفراغ بين الحروف بقدر عرض ريشة الخط.
4 ـ الخط الديواني الجلي الهمايوني: وقد اختص بهذا الخط خطاطو الأتراك، وجعلوه للوحات الفنية المتميزة. وخاصة التي تصدر عن السلاطين.
5 ـ الخط الديواني الجلي الزورقي: وهو خط جميل يتضمن لوحة فنية جميلة في أغلب الأحيان، تكون سفينة لها شراع أو مجداف أو سفّان يديرها.




8- خط الطغراء
ويسمى (خط الطُّرَّة)، وهو خط ولوحة جميلة، بشكل إبريق قهوة أو نحوه، كان خاصاً بالسلاطين، ثم كتبه الخطاطون لغيرهم، ويكتب عادة بخط الثلث، أو خط الإجازة. وقد أُحدث هذا الخط في أواخر العصر العباسي كنوع من أنواع فن الخط وتطوّره..
ورغم أن الطغراء كاد أن يكون من خطوط السلاطين العثمانيين، إلا أنّ المماليك قد استعملوه، (لكن السلاطين العثمانيين هم الذين اختصوا باستعماله).( )
ويشترط الخطاطون المبدعون لهذا الخط أن تكون في أعلاه ثلاثة ألِفات أو لامات، وقبضة كقبضة الإبريق، ومن القبضة في اليسار يتيامن خطَّان ليشكّلا فوهة الإبريق.
وقد انقرض هذا الخط بزوال الدولة العثمانية، لكن الخطاطين مازالوا يكتبون البسملة به، من باب حفظ الأثر، ويعدّونه من بدائع الخط العربي.
(تكتب به الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة، والحكم والأمثال، والأقوال المأثورة، ويجب أن تكون كلها على هيئة واحدة)( ).
إن انقراض هذا النوع من الخطوط العربية يذكرنا بزوال كثير من الخطوط التي كانت معروفة في عصري الخلفاء الأمويين والعباسيين.









9- خط التاج
هو نفسه خط النسخ، إلاّ أن الخطاطين طوّروه. وهذا التطوّر كان بإيعاز من الملك المصري فؤاد الأول سنة (1349 هـ ـ 1925م)، للخطاط محمد محفوظ، حيث جعل هذا الخطاط الحرف الأول من السطر تاجاً، كما جعل هذا التاج في أسماء الأعلام، وابتداء الكلام، لكن الخطاطين الذين جاؤوا بعد الخطاط محمد محفوظ لم يلتزموا بما ابتدعه لهم، فصاروا يتوّجون كل كلمة يريدونها.
يعتبر خط التاج من الخطوط التي لم يحالفها الحظ في الانتشار في العمل الفني، والتجاري، والزخرفي، بل بقي مجاله منحصراً خلال فترة إبداعه، وانتشر فيما بعد بين الخطاطين كنوع من أنواع الخطوط المتطورة. بل نجد أن بعض الخطاطين قد كتبه أيضاً في مجموعاته (من خط الرقعة أيضاً، ولكن خط الرقعة لم يكتب له الذيوع أبداً).( )


10- الخط المغربي
يعتبر الخط المغربي من الخطوط المحلية في المغرب، إذ لم يستسغه خطاطو الشام ومصر والعراق وفارس، وقد حلّ هذا الخط محلّ الخط الكوفي الذي كان سائداً في بغداد حتى القرن الخامس الهجري، وهذا الخط يحمل أسماء أخرى كالخط القرطبي، والخط الأندلسي( ). غير أن شهرته بالخط العربي أعم.
يمتاز باستدارة حروفه استدارة كبيرة. وقد تطور هذا الخط بعد أن ازدهرت الأندلس في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، فطغى جمال الخط المغربي على سائر الخطوط الأخرى. وانتعش في القيروان مع انتعاشه في الأندلس، لوثوق الروابط بين المغرب العربي والأندلس.
وبعد القرن التاسع الهجري هبط الخط البياني لهذا الخط في تونس، وكاد يغيب جماله فيها، وإن لم تغب تلك الزخارف الجميلة التي كانت توشي المصاحف والكتب الأخرى، وخاصة الطبّية، فقد (قلّت العناية بالخط المغربي في المصاحف التي كتبت في غرناطة وفاس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر)( ) الميلاديين.
وقد أصبح هذا الخط الآن أثراً بعد عين..












البــــــاب الثالــــــث :

أدوات الخطاطين


1 ـ القلم
2 ـ أنواع الأقلام
3 ـ الحبر
4 ـ صناعة الحبر
5 ـ الورق
6 ـ المحو واللطع
7 ـ سكين الخطاط






1- القلم

هو أداة الكتابة والخط، ويسمى في لغة العرب (المِزْبَر) و(المِذْبَر). يقال : زَبَرْتُ أي كتبتُ، وذَبَرْتُ: أي قرأتُ.
(وسمَّوه قلماً لأنه قُلِمَ، أي: قُطِعَ وسُوِّيَ كلما يُقلَّم الظُّفْر. وكل عود يُقطع ويُحزُّ رأسه، ويُعَلَّمُ بعلامة فهو قلم).( )
وكان العرب يصفون الشيء بمثيله، فقد قيل لأعرابي: ما القلم؟ ففكر ساعة، وجعل يقلِّب يديه وينظر إلى أصابعه ثم قال: لا أدري.
فقيل له: توهَّمه في نفسك.
فقال: هوعُود قُلِم من جوانبه كتقليم الأظفار( ).
ومرَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأبي حكيمة وهو يكتب المصاحف فقال له: (أَجلِل قلمك. فقصم من قلمه قصمة.
فقال علي: هكذا نوِّره كما نوَّره الله).( )
وقد وصف ابن عبد ربه الأندلسي جماعة يكتبون فقال:
بحكمة تلقنها الأَعْيُن
ومعشر تنطق أقلامهم

كأنما أقلامهم( ) ألْسنُ
تلفظها في الصَّكِّ أقلامهم

فالقلم هو الذي يتكلم بما يفكر به العبقري، ويدوّن ما بعقله من حكمة، ولذلك كان أرسطو طاليس يقول: (عقول الرجال تحت سن أقلامهم).( )
لقد استعمل العرب جريد النخل الأخضر للكتابة وتفننوا في دِقَّتِه وبَرْيِهِ بالشكل والحجم الذي فيه يرغبون، فلما أعزّهم الله بالإسلام الذي حثَّ على طلب العلم، ودعا للكتابة والقراءة والتدوين؛ استعملوا القصب في الخط، واتخذوا أقلامهم منه. ثم رأوا بعد توسع الفتوحات الإسلامية أن القصب يختلف من مِصر إلى مِصر، وأن قساوته وليونته تساعد الخطّاط والكاتب في جودة الخط وإتقانه، وتبيّن لهم أن القصب الفارسي هو أفضل أنواع القصب، لأنه (يكون صلباً قوياً مدوّراً سليماً غير معقد ويكون لون قشرته أحمر ضارباً للسواد).( )
وقد كان الخطاطون يميزّون بين قصب أيّ قُطر وآخر، ويميزون بين صحيحه من سقيمه، ولذلك نرى ذا الرُّمة يصف قلم القصب، ثم يشبّهه بأنف الطير جمالاً ودِقَّة فيقول:
خراطيم أقلام تخطُّ وتُعجم( )
كأن أنوف الطير في عرصاتها

وكان هذا النوع من القصب يُزرع، أو ينبت في الهند وبلاد فارس، فكان التجار يجلبونه إلى العراق والشام مع ما يجلبون من بضائع تلك البلاد إلى بلاد العلم، فيتلقّفه الورّاقون والكتبة في أسواق الكتب في مدن العراق والشام ومصر والأندلس.
وبعد أن برعوا في صناعة الورق والحبر اخترعوا قلم الحبر السائل، الذي يمتاز بخزان صغير للحبر وقبضة، وله ريشة مدببة. وقد استُعمل هذا القلم لأول مرة في مصر، وكتب به المعز لدين الله الفاطمي. ثم تفننوا في صناعة الأقلام والمحابر وطوّروها، لكن الخطاطين مازالوا يخطّون بالقصب لأسباب كثيرة، قد لا تتوفر في أي قلم آخر من المعدن، أو أية ريشة من مادة أخرى.
فالريشة المعدنية تفرض على الخطاط عرض الخط، بينما يتصرف الخطاط في ريشة القصب بالشكل الذي يرغب؛ من حيث البري والقط، ولأن القصب من تركيبه النعومة والسلاسة، ووجود المسامات فيه تسمح بنزول الحبر قليلاً قليلاً، وبقدر ما يكتب الخطاط ويستهلك من الحبر المخزّن فيها.
بينما قلم الخط المصنوع من المعدن؛ فربما يُنزل من الحبر كثيراً عند بداية الخط، بينما يُنزل حبراً بطيئاً بعد ذلك، وربما إذا أسرع الخطاط فإنه لا ينزل من الريشة حبر يكفي الخط.

2- أنواع الأقلام
كان العرب في العصرين الأموي والعباسي يكتبون رسائلهم وخطوطهم بأقلام معروفة، فلا يجوز ما يُكتب بهذا أن يكتب بذاك.
يقول ابن مقلة: (للخط أجناس كان الناس يعرفونها ويعلّمونها أولادهم على ترتيب ثم تركوا ذلك، وزهدوا فيه كزهدهم في سائر العلوم والصناعات).( )
ويبين لنا الخطاط ابن مقلة هذه الأقلام ومهمة كل قلم منها:
فقلم الثلثين : لكتابة السجلات.
وقلم ثقيل الطومار وقلم الشامي: يكتب بهما ملوك بني أمية.
ومُفَّتح الشامي: يكتب به بنو العباس حين تركوا ثقيل الطومار والشامي.
وقلم الرئاسي: الذي أمر به المأمون أن يكتب بقلم النصف ويباعد مابين سطوره، فصارت المكاتبة عن السلطان بقلم النصف والقلم الرئاسي، والمكاتبة بين الوزراء إلى العمال بقلم الثلث، وكذا من العمال إلى الوزراء، ومن الوزراء إلى السلطان بقلم المنشور عوضاً عن مُفتّح الشامي.
وقلم الرقاع: وهو صغير الثلث، للحوائج والظلامات.
وقلم الحلبة وغبار الحلبة وصغيرهما: للأسرار والكتب التي تنفّذ على أجنحة الأطيار.
ويذكر ابن مقلة أن أغلب أهل عصره لا يعرفون أكثر هذه الأقلام، وقد بلغت أنواع الأقلام واحداً وعشرين نوعاً، كل نوع له ما يناسبه( ).
وقد ابتكر الخطاط البغدادي إسماعيل الفرضي مجموعة من الأنابيب المعدنية، وراح يقطها كأقلام القصب، ثم جعل لها (جلفة) مشروحة بعد أن قضى مدة يبريها بالمبرد( ).
قد انفرد بهذه الوسيلة التي استحدثها لنفسه، لكن غيره لم يسلك هذا المسلك.
وقد وصف الشيخ الخطاط محمد بن حسن السنجاري قلم الخط وكيفية قَطَّه فقال:
وشُقّها في الوسْط بالتمكين
طوِّل لها الجلفة بالسّكين

من بطن قشر ولتكن خفيفة
واجعل لها شحيمة لطيفة

فاسلُب لها الشحمة( ) بالسّكينه
وإن تكن قشرتها سمينة

وشجّع الخطاطون تلاميذهم على قط القلم وصفاء رأسه، واعتبروا جودة الخط في قط القلم، وأن الخطاط لا يمكن أن يكون ناجحاً مالم يكن يحسن القطّ وبري القلم، حتى أن بعض كبار الخطاطين ـ كابن البواب مثلاً ـ كانوا يحتفظون بسرِّ قطِّ القلم لأنفسهم، فكانوا لا يقطّون الأقلام أمام تلاميذهم، ولعل ذلك يعود لإتقانهم لتلك المهنة، وليدفعوا تلاميذهم لتعلّمها بأنفسهم. وبلغ من أنانية بعض الخطاطين أنه (إذا أراد أن ينصرف من ديوانه قطع رؤوس أقلامه حتى لا يراها أحد).( )
وعابوا على الخطاط الذي لا يحسن بري القلم وقطَّه، بل ذمُّوه، حتى أن أحد الشعراء قال يذم خطاطاً لا يحسن بري القلم وقطِّه:
فما يدري دبيراً من قبيل
دخيل في الكتابة ليس منها

تنكبّ عاجزاً قصد( ) السَّبيل
إذا ما رام للأنبوب بَرْيَاً

وكان الخطاطون والكتّاب يكثرون السؤال عن الخط والقَط والمداد والقرطاس، فلا يبدأ أحدهم في عمل ما لم يتقنه. وكانوا يكثرون التردد على أهل الصنعة، ويراسلون مَنْ كان بعيداً عنهم، فقد كتب جعفر بن يحيى إلى محمد بن الليث يطلب منه الإيضاح في القلم والبري والحبر والورق لتحسن كتابته، وتجود خطوطه فكتب إليه الليث يقول:
أما بعد:
فليكن قلمك بحرياً، لا سميناً ولا رقيقاً، مابين الرِّقَّة والغِلَظِ، ضيّق النقب. فابره برياً مستوياً كمنقار الحمامة، اعطف قَطَّته، ورقّق شفرته.
وليكن مدادك صافياً خفيفاً إذا استمددت منه، فانقعه ليلة ثم صَفِّهِ في الدواة.
وليكن قرطاسك رقيقاً مُسْتَوِيَ النِّسْجِ، تخرج السِّحاة مستوية من أحد الطرفين إلى الآخر، فليست تستقيم السطور إلاّ فيما كان كذلك، وليكن أكثر تمطيطك في طرف القرطاس الذي في يسارك، وأقلُّه في الوسط، ولا تمطَّ في الطرف الآخر، ولا تمطَّ كلمة ثلاثة أحرف أو أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مطّ، فإنك إذا فرَّقت القليل كان قبيحاً، وإذا جمعت الكثير كان سمجاً....).( )
ويسترسل محمد بن الليث في نصيحته لجعفر، فيحدثه عن كيفية كتابة الحروف حرفاً حرفاً ليحسن الخط وتجود كتابته. كما تغنَّى الأدباء والشعراء بالقلم، وجعلوه واسطة العِقد في عالم المعرفة والفن، والترجمان لما يريد الأديب والعالم من مسموع إلى مكتوب فقالوا: (القلم أحد اللِّسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات مختلفة)( ).


أنواع قصبات الخط
الخط العربي (ص77)

3- الحبر
استعمل الخطاطون الحبر الأسود، بينما استعمل أصحاب الرسم والزخارف الأحمر والأزرق الأخضر وغيرها.
وامتاز الخطاطون والورّاقون بصناعة أحبارهم بأيديهم، وقليل منهم كان يشتري الحبر من دكاكين الكتبيّة.
وكانوا يحترمون الحبر والدواة، ويضربون بهما المثل، ويُعطون من يعيرهما هِبة أو عطية، فقد (أتى رجل إلى وكيع بن الجرّاح وأخبره بحُرمة له عنده.
قال وكيع: وما حرمتك؟
قال الرجل: كنت تكتب من محبرني عند الأعمش..
فوثب وكيع ودخل منزله، ثم أخرج له بضعة دنانير وقال له:
اعذر فما أملك غيرها)( ).


دواة من النحاس المطعم بالفضة والذهب "متحف اللوفر باريس".


4- صناعة الحبر
يصنع الحبر من الورد الجوري، حيث يوضع في قدر كبيرة، ثم يُغلى بالماء الحار حتى ينحلّ. ويقطر منه ماء الورد، ثم تؤخذ البقية (لحثالة) ويوضع فيها حديد صدئ فيفاعل معها بالتأكسد، ويتبدّل لون الحثالة إلى أسود، ثم تجفف هذه الحثالة حتى تكون كالفصوص، ثم تطحن جيداً وتذاب بالماء الحار فتكون حبراً أسوداً، يضاف إليها قليل من الصمغ العربي حتى لا يلتصق الحبر بالورقة عند الكتابة، ولا يسقط بالنفط أو النفخ، كذلك ليكتسب الحبر من الصمغ لمعاناً، ويضاف إلى الحبر قليل من الملح)( ).
ويضع الخطاط الحبر في المحبرة، ثم يضع في المحبرة قليلاً من خيوط الحرير وتسمى (ليقة) أو (طُرّة) تقوم هذه الخيوط بتأمين كمية محدودة من الحبر للقصبة.
كما أن الحبر ضمن هذه الليقة يختمر فيشتد لونه أكثر مما هو أسفل المحبرة وهناك أمر أهم من ذلك كله، ألا وهو أن الخطاط حين يغمس القصبة أو القلم في محبرة الزجاج أو المعدن، فإن الريشة (طرف القلم) تلامس أسفل الدواة فتتأثر بذلك.
وهناك طريقة أخرى لصناعة الحبر من الدخان المتجمّع في المدافئ، حيث يؤخذ هذا الدخان الكثيف (السخام) ويطبخ في وعاء ثم يضاف إليه كمية من الصمغ العربي، والعفص، والملح، وبعض الخطاطين يضيف ماء قشر الرمان بدلاً من العفص، ثم يغلي جيداً ويُصفى.
ويصف ابن البواب الحبر وطريقة صناعته فيقول شعراً:
بالخل أو بالحصرم المعصور
وألِقْ دواتك بالدخان مدبّراً

مع أصفر الزرنيخ والكافور
وأضف إليه مُغْرَة قد صُوّلت

الورق النقي الناعم المخبور
حتى إذا ما خُمّرت فاعمد إلى

ينأى عن التشعيث والتغيير
فاكبسه بعد القطع بالمعصار كي

ما أدرك المأمول مثل( ) صبور
ثم اجعل التمثيل وابك صابراً

والحبر المصنوع من سخام النفط أفضل من غيره.
قال الوزير ابن مقلة: (أجود المداد ما اتّخذ من سخام النفط)( ).
وقال ابن الجوزي: (كان ابن مقلة على المائدة، فلما غسل يده رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى، فأخذ القلم وسوّدها وقال: تلك عيب وهذا أثر صناعة. وأنشد:
ومداد الدواة عطر الرجال( )
إنما الزعفران عطر العذارى

وقال جعفر بن محمد لفتى على ثيابه أثر مداد وهو يستره:
عطر الرجال وحلية الكُتّاب( )
لا تجزعنّ من المداد فإنه

وقال بعض الأدباء: عطّروا دفاتر آدابكم بجيّد الحبر، فإن الأدب غواني، والحبر غوالي)( ) وكانوا يختارون الألوان المناسبة للخطوط والصور التي تتخلل كتبهم، ولهم طريقة ناجحة في صنع الأحبار الملونة، وتمازج الألوان، واشتقاق من كل لون ألواناً أخرى تختلف درجاتها عن الأصل، وذلك بإضافة مسحوق نباتات أو أزهار أو عفص، أو أتربة، أو حشرات ملونة.
لقد صنعوا الأحبار من المواد الملوّنة التالية: اللون الأزرق: صنعوه من النيلة أو الصبر.
اللون الأصفر: صنعوه من الزعفران أو الليمون.
اللون الأحمر: من الشمع المذاب لحشرة البق المرقّط.
اللون الزيتوني: من خلط الأزرق بالزعفران
اللون الأخضر: من مزج الزعفران بالزنجبار( )
اللون البنفسجي: من الأزرق والأحمر( )
ووصف أحد الخطاطين الأدباء حياته البائسة فقال:
(عيشي أضيق من محبرة) وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي أشد سواداً من الحبر، وحظّي أحقر من شقّ القلم، ويدي أضعف من قصبة، وطعامي أمرّ من العفص، وسوء الحال ألزم لي من الصمغ)( ).
5- الورق
يعتبر الورق المادة الرئيسية للخط، فقد استعمل النسّاخ والخطاطون لوحاتهم الفنية والزخرفية قبله على رقائق الحجارة، والجلود وأوراق البردي، وبعد أن نقل العرب صناعة الورق عن الصينيين، ازدهرت الكتابة وانتشرت صناعة الكتاب انتشاراً مذهلاً، فنقلوا هذه الصناعة في تجاراتهم إلى أوربا وجزر البحر الأبيض المتوسط، وإلى أفريقيا وسائر بلاد المشرق.
كان المصريون يستعملون البردي لصنع الحبال والحصر والألبسة، وقد رأى العباسيون أن يقيموا مصنعاً لصناعة ورق البردي في العراق، وكان المعتصم هو أول من فكّر في ذلك، فقد أسس منزلاً ملكياً في سماوة على نهر دجلة، وقد جلب له العمال المصريين، والخبراء بصناعة البردي، لكن هذه التجربة باءت بالفشل( ).
كان الخطاطون يسمّون ورق البردي المصنوع في مصر بـ (ورق الطومار) فلما صنعوا الورق من القطن ولحاء الشجر راحوا يسمّون هذا النوع من الورق بـ (الكاغد) حيث اشتهرت به سمرقند، ومنها انتقل إلى بغداد، حيث أمر هارون الرشيد بفتح معمل مثله في بغداد، فحلّ ورق الكاغد محل "الرّق" الذي كان يستعمل في الدواوين والمراسلات، فلما انتهى استعمال ورق البردي (الطومار) راح الناس يقولون: إن كواغيد سمرقند عطّلت قراطيس مصر.
وكان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أول من كتب على ورق الطومار (البردي) وأمر أن تكون كتبه ورسائله ذات صفة رسمية، وأن يكون الخط والورق جيّدين، وكان يقول عن كتبه والكتب التي ترد إليه (تكون كتبي والكتب إليّ خلاف كتب الناس بعضهم إلى بعض)( ).
وحيث أن الورق قليل في بداياته (طومار أو كاغد) وأنهما يستوردان بتكلفة عالية، فقد أمر الخلفاء في الاقتصاد عند استعمالها، فقد أمر عمر بن عبد العزيز كُتّابه أن يجمعوا الخط في حجم صغير، فكانت كتبه بطول شبر أو نحوه.
وحينما شكا إليه بعض ولاته قلة القراطيس كتب إليه يقول: (أن دقّق، وأقلل كلامك، تكتف بما عندك من القراطيس).
قال يوسف بن صبيح الكاتب حين دخل على أبي جعفر المنصور: (… فسلّمت، فأدناني وأمرني بالجلوس، ثم رمى بربع قرطاس وقال لي: أكتب وقارب بين الحروف، وفرّج بين السطور، واجمع خطّك، ولا تسرف في القرطاس…)( ).
وإلى جانب معمل الورق في بغداد، كانت بلاد الشام سبّاقة إلى صناعة الورق، فقد أُنشئت عدة معامل للورق في دمشق وطرابلس الشام، وطبرية، كما اشتهرت الفسطاط (القاهرة) بصناعة نوع من الورق يسمى (المنصوري).
وكان لبغداد في القرن التاسع شهرة بصناعة نوع من الورق الممتاز الذي يسمى (البغدادي) كان هذا النوع من الورق يمتاز باللّيونة والطراوة والثّخن، وكانت المصاحف تكتب به، وقد استعمله الخلفاء والوزراء في دواوينهم، وقد بيّن القلقشندي في كتابه صبح الأعشى درجات جودة الورق الذي يصنع في البلاد العربية فقال: (كان أعلى أجناس الورق (البغدادي) ويستعمله كتّاب الإنشاء في المكاتب السلطانية، ودونه في الرتبة الورق الشامي، ودونه في الرتبة الورق المصري، ودون ذلك ورق أهل المغرب والفرنجة، فهو رديء جداً، سريع البلى، قليل المكث…)( ).
وقد خضعت تسميات الورق إلى أسماء الحكام والأمراء والمقاطعات التي أنشئ فيها معمل الورق، أو عصر الحاكم الذي حكم، فكانت أنواعه كثيرة، ومختلفة جودة ولوناً، وانتشاراً، وذكر ابن النديم أنواعه وهي:
1-الفرعوني: الذي كان يحاكي الورق المصري (ورق البردي)
2-السليماني: الذي سمي باسم المراقب المالي لهارون الرشيد في خراسان.
3-الجعفري: نسبة للوزير جعفر بن يحيى البرمكي
4-الطليحي: نسبة إلى طلحة بن طاهر والي خراسان من سنة 822 إلى 828م.
5- الطاهري: نسبة إلى طاهر بن عبد الله والي خراسان من 844 إلى 862م
6-النوحي: نسبة إلى نوح بن ناصر من الأسرة السامانية التي حكمت ما وراء النهر بين الفترة (942-954م).
لقد كانت صفائح الورق كصفائح البردي تلصق ببعضها، وتباع بشكل لفّات يقطعها من يستعملها بالشكل الذي يناسبه، أو أن صانعي الورق كانوا يقطعونها بحجم واحد، ويجعلونها بشكل ربطة فيها خمسة وعشرون صحيفة تسمى (دست) وهي كلمة فارسية ترجمت إلى العربية بكلمة (كف)( ).
إن الخطاط يتفنن في نوع الورق كما يتفنن في جودة خطّه، فهو يختار القلم والحبر والدواة، والورق كما يشاء، وحينما لا يكون الورق جيداً فإن الخطاط يقوم بصقله وتلميعه وسدّ المسامات فيه حتى لا ينتشر الحبر، فيحافظ الحرف على حجمه.
وقد استعمل الخطاطون عدة أساليب لصقل الورق، منها:
1-أن يدهن الورق بزلال البيض (البياض) دهناً جيداً، ثم يمسح بخرقة ناعمة نظيفة.
2-أن يصقل الورق بعظم العاج وهذه الطريقة البسيطة قد درج عليها الخطاطون في بغداد ودمشق وغيرهما، مما جعلهم يخلّدون على صحائف هذا الورق بدائع خطوطهم، ولوحاتهم، وأشعارهم التي أصبحت بالنسبة لمن جاء بعدهم، لوحات تراثية رائعة.
وقد استعمل العرب والمسلمون طرائق مختلفة لصقل الورق وتلميعه وعدم السماح له بامتصاص الحبر السائل. منها:
أنه بعد أن يصبح بشكل رقائق، يُملس ليكون بثخانة واحدة، ثم تُفرك هذه الصفائح بخليط من الجريش الناعم، والنشاء المبلّل بعد سحقه وتليينه في الماء البارد، ومن ثم تحريكه في ماء يغلي، حيث تملأ الفراغات الموجودة على صفحائح الورق بهذه المادة الممزوجة، ثم تُصقل على لوح خشبي بمصقل من العقيق، أو من الزجاج، وهذه العملية تسمى "المعالجة"( ).
وكان صانعوا الورق يلوّنونه بألوان مختلفة، وبحسب اللون الرائج أو على طلب الزبون، لكن طريقة التلوين تختلف عن صباغة الورق الملون حالياً، فالورق الحديث يلوّن مع العجينة، كان استعمال الورق الملون قليلاً فهم يلوّنون الكمية المطلوبة منهم، وبإحدى الطريقتين التاليتين:
الطريقة الأولى: أن تغمس هذه الصفائح في أحواض سائلة ملونة باللون المطلوب، عدة مرات، حتى تتشرب الصفائح هذه الألوان، ثم تجفف وتُصقل بمصاقل خاصة.
الطريقة الثانية: أن تفرك هذه الصفائح بمادة صبغيّة( ).

6- المحو واللطلع
امتاز الخطاطون العظام بمحو الحرف الزائد أو النقطة حالما وقعوا في الخطأ، وذلك قبل أن يمتص الورق الحبر، وذلك بقصد محوه. وكانت لهم عدة طرائق لمحو تلك الأخطاء منها:
1-أن يمسحه بإصبعه حالما وقع في الخطأ.
2-أن يتركه حتى يجف فيحكّه ثم يصقل الورق بأداة خاصة ويكتب الحرف من جديد.
3-أن يقوم الخطاط بلطع الحرف الذي أخطأ فيه، وهذه الطريقة قديمة، وشائعة عند خطّاطي العرب قبل غيرهم. وقد دوّنوها في أبياتهم، فقد كتب أبو نواس أبياتاً من الشعر لجارية راسلته، وقد ظهر آثار المحو واللطع في رسالتها، فقال:
ه بريق اللسان لا بالبنان
أكثري المحو في الكتاب ومحيّـ

العذاب المفلّجات الحسان
وأمرّي الخزام بين ثناياك

فيه محو لطعته بلساني
إنني كلما مررت بسطر

أسعدتني وما برحت( )مكاني
فأرى ذاك قبلة من بعيد

وكان الخطاطون يعتزون بمحابرهم فينمِّونها ويعطرونها، بأجمل الزخارف، وأحسن العطور، كالمسك والزعفران، وذلك ليسهل عليهم اللطع عند الخطأ، فلا يستكرهون رائحة الحبر.
ولشدة حبهم للخط، وكراهية الخطأ فيه كانوا يمحون الخطأ بكُمّ ثوبهم.
(كتب إبراهيم بن العباس كتاباً، فأراد محو حرف منه فلم يجد سبيلاً، فمحاه بكُمّه.
فقيل له في ذلك، فقال: المال فرع، والقلم أصل، فهو أحق بالصون منه، وإنما بلغنا هذه الحال واستفدنا الأموال بهذا القلم والمداد)( ).
وهذا يعني أن الخط فن في مقدمة الفنون التي كانت تدرّ ربحاً وجاهاً للخطاطين.

7- سكين الخطاط
كل أداة لبري الأقلام تسمى (مبري) أو (مبراة) لكن الخطاطين يستعملون السكين كأداة فريدة ومتميزة عن بقية أدوات الخط التي يعتزون بها لتجويد الخط، فهم يعيرون ويهدون من أقلامهم ومحابرهم وأحبارهم وأوراقهم لأصدقائهم وتلاميذهم، لكنهم لا يفعلون ذلك بالسكين إلاّ ما ندر.
ولهم أمزجة مختلفة في اقتناء السكين التي تناسبهم، وقد وضعوا لها مواصفات منها:
1-أن لا تكون صغيرة ولا كبيرة.
2-أن تكون قبضتها تملأ اليد.
3-أن تكون متوسطة الحجم.
وقد وصفها أحد الخطاطين فقال: (ينبغي أن تكون لطيفة القدّ، معتدلة الحد)( ).
والسكين رفيقة الخطاط في حلّه وترحاله، وقد وصفها الخطاطون الشعراء في أشعارهم، وتحدثوا عنها بما يشفي غليلهم، فهي التي تحدد لهم نوع الخط وحجمه، وهي التي ترافقهم في الحل والسفر.









البــــاب الـــرابع :

الخطا0طون العظام


1-ابن مقلة..
2-ابن البواب..
3-ياقوت المستعصمي..
4-الحافظ عثمان
5-هاشم البغدادي..
6-حامد الآموي..








ابن مقلة
272-328هـ / 866-940م

بلغ الكتاب أوجه في العصر العباسي، وانتشرت صناعة الورق وتفننوا في قطّ القلم، وحددوا له أنواعاً لكل خط، والتقى الأدباء والفنانون في دكاكين الوراقين بالفنانين والخطاطين.
وكثرت الخطوط، وكثر الخطاطون، فكان لا بد من وضع المقياس الثابت للخط، لإدراك صحيحه من سقيمه، فكان فارس هذا الميدان شاب عاش عيشة البسطاء، ومن عائلة بسيطة رغم أنها كانت مشهورة بالخط وقد توارثته قبله وبعده.
هذا الخطاط الذي كان فيصلاً لمن قبله وبعده، هو أبو علي محمد بن علي ابن حسن( ) بن مقلة( ).
مولده ونشأته
ولد ابن مقلة (في بغداد بعد عصر يوم الخميس في عشرين من شهر شوال سنة 272هـ – 866م)( ).
(ومقلة اسم أمه كان أبوها يرقّصها فيقول: يا مقلة أبيها، فغلب عليها)( ).
وكان هذا الاسم يرافق العائلة بأسرها، كما أن الخط قد رافقها فقد (كان أخوه مليح الخط، وأبوه أيضاً، وله ولأخيه ذرية كانوا ممن يحسنون الخط، لكنهم لم يبلغوا محمد بن مقلة)( ).
وكان أخوه الحسن (أبو عبد الله) منقطعاً إلى بني حمدان سنين كثيرة يقومون بأمره أحسن القيام، وقد أخطأ ياقوت الحموي حين نسب لسيف الدولة أنه فقد خمسة آلاف ورقة من خط أبي علي بن مقلة وهي في الحقيقة لأبي عبد الله الحسن بن علي بن الحسن بن عبد الله بن مقلة( ).
ذلك لأن أبا علي بن مقلة لم يطأ حلب.
أخذ أبو علي عن كبار علماء عصره في بغداد علوم الأدب واللغة (وروى عن أبي العباس ثعلب، وأبي بكر بن دريد)( ).
فكان من نتيجة همته العالية وطموحاته المتواصلة أن صعد سلّم ريادة الخط، فكان رائد الخط العربي في العصر العباسي، كما صعد سلّم السياسة فكان وزيراً أكثر من مرة، وقد أودت به طموحاته إلى السقوط، فقد قطعت يده التي كان يخط بها، كما دخل السجن بسبب سياسته الهوجاء فقضى حياته فيه، ومات بين جدرانه بائساً.
في الوزارة
صحيح أن ابن كثير قال عنه: كان في أول عمره ضعيف الحال، قليل المال)( ) إلاّ أنه استطاع أن يغير تلك الحال البائسة إلى أفضل حال. وأن ينثر المال حتى في غير أماكنه كما ينثر التراب، فقد كان في أول أمره أن أصبح جابياً لخراج بعض أعمال بلاد فارس، فتغيرت أحواله من سيء لحسن، ومن حسن لأحسن، وبلغت سمعته الحسنة الخليفة المقتدر، فلما شغر منصب الوزارة التي كان يتسلمها علي بن عيسى، سمّي للخليفة ثلاثة ممن يرشحهم هذا المنصب وهم: (الفضل بن جعفر بن الفرات، وأبو علي بن مقلة، ومحمد بن خلف النيرماني، فقيل للخليفة المقتدر: أما ابن الفرات فقد قتلنا عمه الوزير أبا الحسن وابن عمه، وصادرنا أخته ولا نأمنه، وأما ابن مقلة فحدث غرٌّ لا تجربة له بالوزارة ولا هيبة له في قلوب الناس، وأما محمد بن خلف النيرماني فجاهل متهوّر ولا يدفع عن صناعة الكتابة والمعرفة)( ).
وأحب ابن مقلة أن يكون وزيراً للمقتدر، وبذل في سبيل ذلك ما يملك من دهاء وخبرة في السياسة، فأُرسل إلى الأنبار ومعه خمسون طائراً لنقل الأخبار( ) التي كانت تحدث سريعاً، وتكاد تهدد جسم الدولة لكثرة الأحداث والفتن، فكانت الأخبار تأتيه على أجنحة الأطيار، فقيل للخليفة: (هذا فعله ابن مقلة فيما لا يلزمه، فكيف إذا اصطنعته؟) فولاّه المقتدر الوزارة على ما سمع عنه.
استلم ابن مقلة الوزارة فقرّب منه أصدقاءه وأقاربه، (فكان يعينه في تدبير أمور الوزارة أبو عبد الله البريدي لمودّة كانت بينهما)( ) وكان ذلك سنة (316هـ) وبعد سنتين وأربعة أشهر أمر الخليفة أن يقبض عليه وأن تصادر أملاكه، ثم نفاه إلى بلاد فارس، وأحرق داره ليلاً، ونهب الناس ما فيها من حديد وأثاث وحجارة ليلاً( ).
وفي عيد الأضحى سنة (320هـ) استوزره الإمام القاهر بالله، وبقي وزيراً له إلى أول شعبان سنة (321هـ) حيث بلغ الخليفة أن ابن مقلة قد تعاون مع ابن بليق للفتك بالخليفة، فاستتر واختفى عن أعين الناس، وكان ابن مقلة قد ضاق ذرعاً بالخليفة، وراح ينشر بين الناس دعاية سيئة ضده لخلعه (وطاف البلاد متنكراً يؤلّب الناس عليه)( ).
ويبدو أن هذه التحركات المريبة التي كان يتحركها ابن مقلة ضد الخليفة القاهر قد أعجبت الخليفة الذي جاء بعده وهو الراضي بالله، فلما تولى الخلافة الراضي بالله في السادس من جمادى الأولى سنة (322هـ ) جعله وزيراً بعد ثلاثة أيام من توليه الخلافة( ).
إسرافه وبذخه
حين نتتبع حياة ابن مقلة نجده ولد فقيراً، وعاش مطلع شبابه حياة هي أقرب منها للبؤس من الرخاء والنعيم، لكننا نجده عاش عيشة الوزراء المتخمين والملوك، بعد أن بلغ مبلغ الرجال وأصبح وزيراً. كما نلاحظ أنه قد جمع مالاً كثيراً من خلال ولايته في فارس، وتولّيه الوزارة ثلاث مرات لثلاثة من الخلفاء. وكانت له صور من البذخ لم يسبقه إليها غيره، فخلال توليه الوزارة الأولى (كان يصرف لشراء الفاكهة خمس مائة دينار في كل يوم جمعة)( ).
وكان يحب تربية الحيوانات والطيور، ويعتني بزراعة الأشجار المثمرة، وقد تحدث ابن كثير عن بستانه الذي ملأه أشجاراً وطيوراً وحيوانات فقال: (كان له بستان كبير جداً، عدة أجربة- أي فدان)( ).
وكانت الشبكة التي يغطي بها البستان من الحرير، وتحتها صنوف الطيور مما يتجاوز الوصف( ).
تحدث عن هذا البستان ومحتوياته ابن الجوزي فقال: (كان يفرخ فيه الطيور التي لا تفرخ إلاّ في الشجر، كالقماري، والدباسي، والهزار، والببغ، والبلابل، والطواويس، والقبج، وكان فيه من الغزلان وبقر الوحش، والنعام، والإبل، وحمير الوحش)( ).
وكان يعمل في هذا البستان عمال وخدمة للشجر والطيور والحيوانات وقد شاهد أحد هؤلاء العمال ازدواج طائر بحري على طائر بري، ولاحظهما ملاحظة دقيقة، فلما أيقن تفريخهما، أسرع إلى ابن مقلة وبشّره (بأن طائراً بحرياً وقع على طائر بري فازدوجا وباضا وأفقسا، فأعطى من بشّره بذلك مائة دينار ببشارته)( ).
وقد ذم ابن كثير بذخ ابن مقلة، وأشار إلى زوال تلك النعمة التي كان ينعم بها وقال: (هذه سنة الله في المغترّين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور)( ) وذكر أبياتاً لأحد الشعراء المعاصرين له، يذم فيها بذخه حين بنى قصره الشهير وبستانه. يقول فيها:

واصبر فإنك في أضغاث أحلام
قل لابن مقلة لا تكن عجلاً

داراً ستهدم قنضاً بعد أيام
تبني بأحجُر دور الناس مجتهداً

فكم نحوسٍ به من نحس بهرام
ما زلت تختار سعد المشتريّ لها

في حال نقضٍ ولا في حال( ) إبرام
إن القران وبطليموس ما اجتمعا

حقاً لقد لاقى ابن مقلة إبان ولايته ووزارته نعيماً لا يكاد يوصف، ولم يكن عاقلاً في سياسة تلك النعمة، فانقلبت عليه وبالاً ونقمة، وجعلته عبرة لم يعتبر.
محنة ابن مقلة
من مصائب الأمراء أنهم لا ينزلون العلماء والأدباء منازلهم ويعتبرونهم كبقية الدهماء، ويجرون عليهم القانون الذي يجري على المجرمين والسوقة، وهذا ما جرى لابن مقلة حين رفع يده يعلن الرفض، وقال بلسانه: لا ثم لا. وكان يومها وزيراً للخليفة الراضي بالله.
لقد كانت بين ابن مقلة والمظفر بن ياقوت وحشة وأحقاد، وكان ابن ياقوت مستشاراً للخليفة ومقرّباً من مجلسه. فحاك ابن ياقوت مؤامرة ضد ابن مقلة، وأمر غلمانه بالقبض عليه إذا مرّ في دهليز دار الخلافة، وأقنع الغلمان أن الخليفة راض عن عمله، فلما مرّ ابن مقلة في الدهليز هجم عليه ابن ياقوت والغلمان فاعتقلوه وقبضوا عليه، وذلك يوم الاثنين 14 جمادى الأولى سنة (324هـ – 936)( ) ثم أرسل ابن ياقوت بياناً للخليفة لسبب الاعتقال عدّد فيه ذنوبه وأخطاءه التي تستدعي ما فعله به. ووافق الخليفة على تقرير ابن ياقوت وعزل ابن مقلة عن الوزارة، وقلّدت لعبد الرحمن بن عيسى الذي راح يهين ابن مقلة، ويضربه بالمقارع، ويكيل له ألوان التعذيب من التعليق بالحبال والضرب وغير ذلك، ثم أفرج عنه.
وراح ابن مقلة يتردد على ابن رائق وكاتبه، وأخذ يتذلل لهما لاستعادة أملاكه وضياعه وأملاك ولده أبي الحسين، فواعده، فلما يئس من تلك المواعيد، راح يتهم ابن رائق في كل مكان، ثم راح يكتب للخليفة مثالب أمير أمرائه، ويطلب منه أن يقبض عليه، وأنه إذا ما أعاده إلى الوزارة، وقُبض على ابن رائق فإنه سيقدم للخليفة ثلاثة ملايين دينار.
ثم راح يراسل (بجكم التركي) يُطعمه في موضع ابن رائق، وكتب إلى (وشمكير) بمثل ذلك وهو بالري، لكن الخليفة لم يكن راضياً عن تصرفات ابن مقلة المريبة، وكان يعده بإعادة أملاكه كمواعيد أمير أمرائه( ) لأنه غير راض عمن راسلهم ابن مقلة خارج بغداد.
وذهب ابن مقلة إلى الخليفة، فاعتقله وحبسه في حجرة ثم استدعى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وطلب ابن رائق من الخليفة قطع يد ابن مقلة اليمنى التي راسل بها (بجكم التركي) و(شمكير) وخصوم الخليفة وخصومه.
وأرجئ الأمر إلى وقت لاحق، حيث عقد الخليفة لهما مجلساً مخضراً، ودار كلام كثير، أمر الخليفة في نهايته قطع يد ابن مقلة اليمنى، وأن يعود إلى السجن.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن الخليفة قد استفتى الفقهاء فأفتوا بقطع يده( ) ولعل تلك الفتوى بسبب كثرة ما يملكه من مال وضياع وما فعله في بستانه الكبير من تربية الطيور والحيوانات، وأن ذلك كسب غير مشروع يستحق عليه العقوبة.
لكن الخليفة الراضي ندم على ما فعل، فأمر الأطباء بملازمته ومداواته في السجن حتى يبرأ، ففعلوا( ).
يقول ثابت بن سنان الطبيب: (كنت إذا دخلت عليه في تلك الحال يسألني عن أحوال ولده أبي الحسين، فأعرفه استتاره وسلامته، فتطيب نفسه، ثم ينوح على يده ويبكي ويقول: خدمت بها الخلفاء وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، وتقطع كما تقطع أيدي اللصوص؟
فأسلّيه وأقول له: هذا انتهاء المكروه، وخاتمة القطوع فينشدني ويقول:
فإن البعض من بعض ( ) قريب
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً

وكان من صفات ابن مقلة أنه كان قاسياً عاطفياً عصبي المزاج، سريع الانفعال، عصامياً، فرغم أن يده قد قطعت فإنه كان يطمع أن يعود وزيراً ليفعل الأفاعيل وينتقم من غيره، وكان لا يتوانى من نقد غيره نقداً جارحاً، والنيل منه نيلاً لاذعاً.
لقد خرج من السجن مقطوع اليد، لكنه استمر يخط بهذه اليد المقطوعة خطوطاً جميلة كالتي كان يخطها وهو معافى، وكان يربط على يده عوداً (قصبة) ويكتب ما يريد بنجاح كبير( ).
وتسرّبت أقواله القاسية بحق ابن رائق وغيره، وأخذ يكتب للخليفة الراضي يستعطفه ويطلب منه أن يجعله وزيراً مرة رابعة، وكان مما كتبه له: (إن قطع اليد ليس مما يمنع الوزارة)( ).
لكن الخليفة لم يلتفت إلى طلبه، بل زاد ذلك من غيظ خصمه ابن رائق، حيث أمر (بجكم التركي) أحد المقرّبين من ابن رائق بقطع لسان ابن مقلة، ورمي بالحبس مدة طويلة، كان فيه مهملاً، لا يخدمه أحد، ولا يقدم إليه ما يلزمه، (فكان يستقي الماء لنفسه من البئر، فيجذب بيده اليسرى جذبة، وبفمه الأخرى)( ).
ولم يرض الأدباء والشعراء للواقع الأليم الذي عانى منه ابن مقلة، نتيجة معارضته لوزير أو لأمير الأمراء في الدولة، فنظموا القصائد التي تستنكر تلك الفعلة التي أقدم عليها الخليفة من قطع يده ولسانه، فقد قال أحد الشعراء:
لحاه الله من أمر بغيض
وقالوا: العزل للوزراء حيض

من اللائي يسئن من( ) المحيض.
ولكن الوزير أبا علي

كما ندد الصولي بالذين قطعوا يده للقضاء على مواهبه الفنية، أو ليخرسوا لسانه بالقمع والإرهاب والقطع فقال:
لأقلامه لا للسيوف الصوارم
لئن قطعوا يمنى يديه لخوفهم

رأيت الردى بين اللها( ) والغلاصم
فما قطعوا رأياً إذا ما أجاله

وفي الحقيقة أن أزلام الخليفة استطاعوا إسكاته وتنحيته عن الساحة السياسية، فهل استطاعوا إزاحته عن عرش المجد والخلود الذي اعتلاه بفنه وخطّه وذوقه؟
نبوغه وآثاره
شهد المؤرخون والباحثون لابن مقلة في جودة الخط وحسنه، فقد كان في عصره شيخ خطاطي بغداد، فلم يدركه أحد ممن عاصره، ولم يسبقه إلى طواعية القصبة له لاحق حتى قرون تلته. وقد ترك لنا رسالة بعنوان: "رسالة في علم الخط والقلم"( ) ورجع إليها الأستاذ معروف زريق حين كتب كتابه (كيف نعلم الخط العربي) واعتبرها من مراجعه.
وقد أسهب الباحثون في ذكر جوانب إبداعه في الخط. فقد جاء في كتاب ثمار القلوب ما يلي: (كتب ابن مقلة كتاب هدنة بين المسلمين والروم بخطه، وهو إلى اليوم –أي زمن الثعالبي سنة 429 هـ – عند الروم في كنيسة قسطنطينية، ويبرزونه في الأعياد، ويعلقونه في أخصّ بيوت العبادات، ويعجبون من فرط حسنه وكونه غاية في فنه)( ).
ويذكر البحاثة عمر رضا كحالة أنه ترك ديوان شهر صغير يقع في ثلاثين ورقة( ) من ذلك الشعر ما ذكره أصحاب الموسوعات الكبيرة كابن خلكان والذهبي وابن الجوزي وغيرهم، وقد قاله ابن مقلة في حالته البائسة بعد قطع يده:
تُ بأيمانهم فبانت يميني
ما سئمتُ الحياة لكن توثّقـ

حرموني دنياهم بعد ديني
بعتُ ديني لهم بدنياي حتى

حفظَ أرواحهم فما حفظوني
ولقد حُطتُ ما استطعتُ بجهدي

يا حياتي بانت يميني( ) فبيني
ليس بعدَ اليمين لذةُ عيشٍ


أما الأستاذ هلال ناجي فيقول عن آثاره: (ترك ابن مقلة مدرسة في الخط بعده، وله في الخط رسالة مخطوطة موجودة، لكن أثاره الخطية ضاعت، ولم يبق منها سوى مصحف واحد محفوظ في متحف هراة بأفغانستان)( ).
ونقل الذهبي خطأ وقع فيه ابن النجار حين اعتبره شاعراً أديباً وأنه (وفد على ملك الشام سيف الدولة، ونسخ له عدة مجلدات)( ).
فابن مقلة لم يدخل حلب ولا نزل بلاد الشام البتة.
صفاته وطباعه
في الحقيقة أننا حينما نقف على سيرة ابن مقلة نجده عنيفاً في حبه، عنيفاً في بغضه، يكيل لمن يبغضه الصاع، ويهيل لمن يرضى عنه بلا كيل. كان يتحدث عن نفسه مراراً فيقول: (إذا أحببتُ تهالكت، وإذا أبغضتُ، أهلكتُ، وإذا رضيتُ آثرتُ، وإذا غضبتُ أثّرتُ)( ).
لقد كان من حبه للخط أنه يمسح بالحبر ثوبه إن وجد في يده أو قلمه شيئاً من ذلك، وهذا من حبه لمهنة الخط، فقد كان يأكل يوماً. فلما غسل يده، وجد نقطة صفراء من حلو على ثوبه [ففتح الدواة] وأخذ منها الحبر وطمس مكان الحلو بالقلم وقال: (ذاك عيب، وهذا أثر صناعة) يريد صناعة الخط، وأنشد:
ومداد الدواة عطر( )الرجال
إنما الزعفران عطر العذارى

وكان يقول: (يعجبني من يقول الشعر تأدّباً لا تكسبّاً، ويتعاطى الغناء تطرّباً لا تطلّباً)( ).
وحين نجده في هذه المقولة عفيفاً، نجده في موقف آخر عنيفاً، فقد تحدث الحسن بن مقلة عن سبب قطع يد أخيه فقال: (كان سبب قطع يد أخي كلمةً. كان قد استقام أمره مع الراضي، وابن رائق، وأمرا بردّ ضياعه، ودافع ناس فكتب أخي يعتب عليهم بكلام غليظ، وكنا نشير عليه أن يستعمل ضد ذلك فيقول: والله لا ذللتُ لهذا الوضيع.
وزاره صديق ابن رائق، ومدبّر دولته، فما قام له)( ).
وذكر الذهبي أن ابن النجار ساق فصلاً طويلاً يدلّ على تيهه وطيشه، وكان من ذلك الطيش أنه كان إذا ركب يأخذ له الطالع جماعة من المنجمين، ليأمن المركب والطريق.
وذكر ابن كثير أنه حين عزل في زمن الخليفة الراضي (صودر منه ألف ألف دينار)( ).
وهذا المبلغ وغيره لا نشك في أنه جمعه بطرق غير مشروعة، وله سوابق الرقاع الكثيرة في مجلسين، ولو كانت كلّها تخصك لقضيتُها. فقبل جعفر يده)( ).
ولا شك أن ابن مقلة كان يقضي حوائج الناس، ويدير شؤون وزارته خير إدارة، ولعله في ذلك كان يطمح إلى أعلى من الوزارة، فقد كان يتظاهر أمام من يعرفونه بالعظمة، وعلو المقام، وكان يرى في نفسه المقدرة على إدارة أكبر الأمور، وكان ينظم ذلك شعراً فيقول:
في شامخ من عزّة المترفّع
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة

ما كان أولاني بهذا( ) الموضع
قالت لي النفس العزوف بقدرها

ولعل تلك الآمال هي التي أوردته المهالك. ولو بقي ابن مقلة كاتباً خطاطاً لنال من المجد أكثر مما ناله في الوزارة، والذي نشاهده من خلال سيرته أنه طلب المجد بغير الخط فناله في الخط وسقط في السياسة.
قالوا فيه
لقد أثنى العلماء والمؤرخون على ابن مقلة كخطاط بارع، وفنان مبدع، لكنهم اعتبروه أرعناً في السياسة، وسيءّ التصرف بماله، وما قام به من بذخ وإسراف اشمأزت منه نفوس عارفيه، وضمر له السوء أكثر الذين عرفوه في قصر الخلافة والوزارة. فقد كانت حياته صوراً مختلفة عجيبة، وفيها من المتناقضات والغرائب.
في ذلك تدل على أنه جمع مالاً لا يكاد يحصى.
كما نجد ابن مقلة يتغير عما به من صفات حسنة قبل الوزارة عما آلت إليه الأمور بعدها فغيرته كثيراً. ونسي بعدها أعز أصدقائه الذين كان يأكل الخبز الخشن معهم فقد كان الشاعر جحظة صديقاً له، وبينهما صداقة متينة، ولما أراد جحظة أن يدخل على ابن مقلة بعد أن تقلّد الوزارة لم يؤذن له فقال:
اذكر منادمتي والخبز خشكار
قل للوزير أدام الله دولته

ولا حمار ولا في الشطّ( )طيّار
إذ ليس بالباب يرذون لنوبتكم

وكان يقضي وهو في الوزارة حوائج الناس، ويلبي لهم طلباتهم وحوائجهم، ولا يردّ أحداً، فقد كان جعفر بن ورقاء الشاعر يعرض على ابن مقلة الرقاع الكثيرة في طلبات الناس في مجالسه العامة وخلواته، فربما عرض له في اليوم أكثر من مائة رقعة (طلب حاجة وتظلّم).
وفي أحد المجالس عرض عليه كثيراً من مطالب الناس التي دونوها في الرقاع فضجر ابن مقلة وقال: (إلى كم يا أبا محمد؟).
قال جعفر: على بابك الأرملة والضعيف وابن السبيل، والفقير، ومن لا يصل إليك.. أيّد الله الوزير، إن كان فيها شيء لي فخرّقه، إنما أنت الدنيا، ونحن طرق إليك، فإذا سألونا سألناك، فإن صعُبَ هذا أمرتنا أن لا نعرض شيئاً، ونعرّف الناس بضعف جاهنا عندك ليعذُرونا.
فقال أبو علي: لم أذهب حيث ذهبتَ، وإنما أومأت إلى أن تكون هذه
يقول الثعالبي: (من عجائبه أنه تقلد الوزارة ثلاث دفعات، لثلاثة من الخلفاء، وسافر في عمره ثلاث سفرات، اثنتان في النفي إلى شيراز والثالثة إلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاثة مرات، في ثلاثة مواضع، وكان له ثلاثة من الخدم)( ).
وقد خلّده الثعالبي في كلمات كخلود خطه: (خط ابن مقلة يضرب مثلاً في الحسن، لأنه أحسن خطوط الدنيا، وما رأى الراؤون، بل ما روى الراوون مثله، في ارتفاعه عن الوصف، وجريه مجرى السحر)( ).
وقال عنه الذهبي: (الوزير الكبير)( ).
ووصفه الصولي وصفاً دقيقاً فقال: (ما رأيت وزيراً منذ توفي القاسم بن عبيد الله( ) أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطاً، ولا أكثر حفظاً، وله علم بالإعراب، وحفظ للغة، وتوقيعات حسان)( ).
وتحدث عنه ياقوت الحموي فقال (وهو المعروف بجودة الخط الذي يضرب به المثل، كان أوحد الدنيا في كتبه قلم الرقاع، والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته( ) ذو فضل بارع)( ).
وقال أبو حيان التوحيدي: (أصلحُ الخطوط، وأجمعها لأكثر الشروط، ما عليه أصحابنا في العراق فقيل له: ما تقول في خط ابن مقلة؟
قال: ذاك نبي فيه، أفرغ الخط في يده، كما أُوحي إلى النحل في تسديس بيوته)( ).
وفاته
بعد حياة منعمة بعد فقر وحاجة، عاد ابن مقلة ليقضي آخر أيامه في سجن الخليفة الراضي مقطوع اليد واللسان، يعاني من شظف العيش وقساوة الحياة كثيراً، ومات يوم الأحد في العاشر من شهر شوال سنة (328هـ – 940م) ودفن في السجن، ثم نبش بعد زمان وسلّم إلى أهله( ) فدفنه ابنه أبو الحسين في داره، ثم نبشته زوجته المعروفة بالدينارية، ودفنته في دارها)( ).
وذكر الذهبي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رحلة الخط العربي من المسـند… إلى الحديث
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فن الخط العربي يا أهل العربية
» كود التحكم فى حجم الخط ولونه ونوعه
» بحث حول ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث
»  موقع للتآكد من صحة الحديث قبل كتآبته
» الورشة الوطنية المدرسية الرابعة لفن الخط و الزخرفة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى متوسطة الشهيد بوربيعة الحملاوي التعليمية  :: منتدي اللغة العربية-
انتقل الى: