هناك من يقتل العصافير

هناك من يقتل العصافير

العصافير تنام... العصافير تموت... مأساة البراءة الأزلية.

غابت الشمس .
طائر أسود كان يلاحقها ، تأخر عن سربه أو أغراه دود الأرض , كان كالحلم الذي ألقته سعدية في فنجان الشيح المر الذي تشربه أم الخير بعد قهوتها : شفت يا خالتي أم الخير طير ما هو صفة طير ، جناحه يظلل القرية ، والجناح الأخر يظلل الجبانة .
ـ خير إن شاء الله
كانت رشفات الشيح المر ترسم على وجه العجوز كثيرًا من التجاعيد وبقايا مرارة موروثة من زمن الجمر النائم تحت الرماد ، ومن طين الفخار الذي يتلبس جسدها .
وبدا الجبل قريبًا من السماء ، ( كاف الريح ) دائمًا قريب من السماء ، يلامسها ، تضع يدها على جبينه يحنو .. تتسع هامته .. يزداد شوقه ، فتثر دموعه ينابيع تسقي شجر الفاكهة والروح
غاب الطائر في حدقة الشمس ، ولفه الظلام الهطول إذ انبعجت السماء تذرف دمعًا ماطرً هطولاً . وقفت سعدية في الباب المواجه للريح التي تجلد صدرها وساقيها قالت تحدث أم الخير المنزوية في ركن لا يقيها الريح والهواجس و تحدث الضوء الخافت الذي يواسي حشرجة صوتها : ـ تأخر الطيب كثيرًا يا خالتي .
ـ إن شاء الله يكون المانع خيرًا .
كان الطريق الترابي يقاوم الظلام الذي خلَفه غياب الشمس ببقايا بياض متعرج يتشبث بالدنيا التي تكاد تترك العالم لصمت المقابر فوق القرية .. سعدية تعرف خارطة الطريق الوعرة التي تقطعها كل يوم إلى المدرسة أدنى الوادي الخجول ، والآن يبدو لها الطريق و خارطته بهما غبش .. وطيفه لا يجيء ، ولا ترفرف عصافيره في صدرها ..
طيف الطيب لا يجيء
و تذكر سعدية تيجان الزهر الجبلي
الطيب لا يجيء ، و تذكر سعدية إذ كانا طفلين يحلمان
جبل ( كاف الريح ) قريب من السماء
الطيب و سعدية و طفولة تكللها الأزهار .. و بعض الشقاء
يشرفان من قمة الجبل على القرية .. يرفرفان فوق شجر الفاكهة و الروح ..
يمنحان المشمش و الرمان نكهة الأحلام
سعدية لا تذكر أن الطيب قال في الطفولة غير ما توشوش به السواقي للعصافير
الطيب لا يجيء .. و سعدية راحت تسلّ خيوطًا من ذاكرة متعبة في هذه القرية التي تمد أذرعها إلى المقبرة فوقها كأنما تتشبث بأمواتها و ترفع إليهم آيات العجز والانكسار . قالت سعدية : ـ أنت محظوظ ، لأنك تستطيع أن تبدع من هذا المشهد العجيب للقرية و المقبرة فوقها آيات الفن و التشكيل .
ـ ما أشد تواضعك ، كأن الشعر يعجز عن تصوير المشهد . إنّه في البدء كانت الكلمة .
... ثم يومآن إلى صانعة الفخار... إلى تشكيل آخر للحياة بالطين و التنور ، و بالمكابدة
و بأنامل أم الخير التي تحضن القصاع و الطواجين ، تحنو عليها أمًّا على أولادها ، تدفنها تحت الرماد ، الصهد يمنحها الحمرة و يمنحها الحياة ، كل خبز القرية الذي يفتل عضلات شبابها ، و يشعل الورد على خدود صباياها هو من بين أنامل أم الخير، ومن أم الخير تعلم الطيب التشكيل , و منها تعلمت سعدية الشعر و من كاف الريح كذلك تدانت عناقيد الشعر والتشكيل
- ... لكن لا أحد في هذه القرية يعرف أنك شاعرة
- ولا أحد فيها يعرف أنك رسام بارع .
فقط صانعة الفخار و أبي الذي وقف يومًا في مهب الريح ...في وجه الغول الهلامي ، في مفترق الطرق , يقول لا ..
لا لبيع الينابيع ..
لا لتغيير مجرى النهر ..
سيهلك الناس , وتنتحر الأشجار ..
قالوا : الماء والنار للناس مشاع
... وباعوا الينابيع و غيروا مجرى النهر لأناس يضعون ربطات العنق و يمسحون أحذيتهم كالمرآة , ويركبون سيارات عجيبة تثير من عجلاتها غبارًا يتصاعد ثم يسّاقط أسى وحسرة على وجوه الناس ، قالوا للناس : - سيكون هنا استثمار في الأرض والإنسان، وستشتعل الأرض نورًا و نوّارًا ، و ستزهو الربوع سنابل و من كل زوج بهيج..
وحينما كانوا يوقّعون العقود ، مات ..
مات أبي معلمُ القرآن و هو يلقن الأطفال الآية :
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيئ قدير "
مازالت السماء تمطر ...
التحمت السماء بكاف الريح ، بالمطر و بالمقبرة فوق القرية ، احتضنهم الظلام في عنف ، ولف الواقفتين أمام بابهما بلا رقة و لا ألفة ، غيّر الظلام وجهه ، أصبح مرعبًا ، ثقيلاً ، طويلاً بلا نور و بلا الطيب ، لم يعد الطريق الترابي يضحك ، ولم تعد الريح تلثم وجه سعدية المدور كالقمر, أصبحت تلطمه بقوة تحت الظلام ، وأحست المرآتان إحساسًا واحدًا أن السماء تمطر بغضب ، استعادتا الحلم ، و تذكرت سعدية تفاصيله :
- الطير كان في منقاره عصفور أخضر
عصفور من الجنة
العصفور غنّى.. بكى
الطير صوته انتشر في السما
ظله غطّى الجبانة و القرية ناسها خرجوا
أنا بكيت .. جريت .. خفت مما شفت ..
عندما فطنت و استغفرت ، كان الطيب مازال راقد
خرجت .. ابحثت في السما على الخيوط البيض
ورجعت .. الخيوط السود و سحابة في السما
قالت أم الخير: خير يا بنتي
أم الخير لا تتكلم، أقوالها مجرد فواصل ترميها بين الجمل في كلام الآخرين ، و تعتصم في أبراج الحكمة بين أواني الفخار .... من قال أنها لا تفسر الأحلام ؟ في ذلك القلب البعيد في الأعماق تتزاحم الأشياء ، و لا تخرج إلا تنهدات مكتومة يغلفها الصبر و الكبرياء ،

... لكن الطيب لا يجيء
..جاء ذلك اليوم و بيمينه لوحة بها تخطيط لم تكتمل ملامحه ، بدا كأنه أفق يمتد ... بدا كأنه عينان دامعتان فيهما أفق يمتد ... بدا كأنه عصفور في أفق يمتد ... بدا كأن في اللوحة أمل وألم ، بوح و استباحة ، منارة و سراج ، قبة و باحة ، بحر يتصيد الزوارق المتعبة ، ويغوي النوارس أن تسافر بعيدا حيث الطيران و الغوص و التيه سواء ،... بدا كأن في اللوحة امرأة في جعبتها حزمة من غيرة تكفي لتصنع منها ألوف السيوف و بعض القصائد ...
لمحتها سعدية ، قالت : ـ ما اسمها ؟
قال الطيب يحفّزها على أن تساعده في اختيار اسم لها : ـ انظري .. ً هناك من يقتل العصافير ً ..
ملأها عنوان اللوحة شجنا و حيرة ..
قالت : ـ العصافير لا تشرب إلا من الينابيع .
تذكر الطيب أباه حين كان يحتضر , قال يا بني العصافير لا تشرب إلا من الينابيع لذلك هناك من يقتل العصافير لا يدري الطيب هل كانت سعدية تسأله أم كانت تنخرط في صمت هائل يدك حصون كل كلام .. كان يريد أن يتقدم بهذه اللوحة إلى مسابقة فنية تنظمها هيئة ثقافية في العاصمة ...
... كانت ألاف العصافير تتساقط برصاص غادر هنا وهناك ، في شرق القلب وغربه ، في حقول الزيتون ، و بين كلمات الآذان .. هنا وهناك ، و هنا في خارطة الطريق إلى المقابر فوق القرية .. وإلى التيه ، و في الطريق إلى روح والده ي قال لا لبيع الينابيع ، و في الطريق إلى عيني سعدية التي تسقي العصافير قصائدها و الزهر الجبلي ، في الطريق إلى صانعة الفخار بفواصلها التي ترميها في كلام الآخرين .. هنا وهناك ، و في القلاع و الحصون التي فتحها الرجال , و في أصوات الرجال و في صليل السيوف و صهيل الخيول و هديل الحمام على المآذن ، و في انتفاضة الصغار , و في الغبار الذي يتصاعد ثم يتساقط أسى و حسرة على وجوه الناس ...
لو سألته سعدية لقال لها هذا الذي .. لا يعرف كيف يسمّيه .. هذا الغامض الذي يتصارع في صدره ، يحيّره أو يبكيه ، يشجعه أو يحبطه ، هذا الضباب الذي يجعل الناس لا يفهمونه .. سعدية و حدها تفهمه في غموضه أو هذيانه أو غوصه إلى ذاته و إلى أعماق سحيقة من تاريخ و فواجع يتشرّبها بين شعرها و الألوان التي يرسم بها لوحاته ..
هل كانت اللوحة تستطيع أن تحمل كل هذه الأشياء ، أم هل كان يجب أن يقول كل شيء مرة واحدة من أجل جميع عصافير الدنيا ؟ .
تذكر سعدية أنه حين أتمّ اللوحة قال لها :
ـ اليوم أحس أني أستريح استراحة المحارب الأخيرة .
.. ثم لفّها كأجمل هدية و قال :هي مهداة إلى كل الضعفاء و العصافير و أبي و الآية، والذين يأتون غدًا .. هنا و هناك ...
توقف المطر و أسفر الصبح عن وجهين مكدودين ، يستعيدان حلمًا و حزمة من أوجاع ليلة بكت فيها السماء ...
.. وعن أربعة رجال يحملون رجلا .. جبلا .. عصفورا .. ينبوعا ..
كانت سعدية و أم الخير......................................
...........................................

بارك الله فيك يا أستاذ
ننتظر منك المزيد

شكرا لك أخى أمين

أنا انتظر مساهماتك الرائعة والشيقة
في كتابة القصص والشعر

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]