هامش مهمل من ذاكرة المورسيكى
حين كان عبد الله الصغير يعبر دمه إلى الضفة الأخرى
هامش مهمل من ذاكرة المورسيكي لخضر بوربيعة
حين كان عبد الله الصغير يعبر دمه إلى الضفة الأخرى ، وحين كان يركب موجة في شرايينه ، و حريقا في مدى عينيه ، و يحدو لقوافل في ذاكرته المتعبة و لمراكب تقطع صحراء البحر ،قالت أمه :
ــ عبد الله يا أيها الصغير ،
المدن مشرعة على كيد الأمواج
و على صياح القراصنة ،
و أنّات الناي على تلة من تيه و ضياع
لم يكن عبد الله الصغير يبكي بكاء النساء ..... لم يكن يبكي و كفى .
سأل نفسه متكئًا على خيط رفيع من الإجهاش : لماذا لا أبكي الآن ؟ و دمع أمي قناديل في شارع من ضباب ؟
قالت : لا تذهب يا بني ، ستضيع مرتين
قال عبد الله الصغير : العمر مرة واحدة يا أماه
قالت أمه و الزمن مسبحة بين أصابعها : عمرك أنت يا بني مرتين .
منذ عشر سنوات حين كان عبد الله الصغير مزهوا بشهادته في التاريخ وضع لها إطارًا و نمّقها ثم علقها على جدار أملس جميل في صدر البيت ، ولم يكتف بل كان حين يقدم نفسه للناس يرفع رأسه و يملأ صدره من هواء لا يعرف من أين يجيء و يقول :
عبد الله الصغير ،
ليسانس تاريخ ،
السن مقدر بحكم قضائي ، لذلك أحس أني مولود في كل الأزمنة
و في كل الأمكنة ، أحس أني الوحيد الذي يختار الزمان الذي يعيش فيه ، فأكون أميرًا في زمن الأمراء ، و أكون شاعرًا في زمن الشعراء ، و نبيلا في زمن النبلاء ، أختار بلاد الهند و السند ، أختار الشام و العراق ، و أعرّج على أندلس أمسح على جبينها ظلامًا يتمدد ، و أضمد جرحًا مازال
ينزف راعفًا ، أوشح شقراء من غرناطة بجرحي النازف ،
و إلى قرطبة أهرّب بعض أحلامي قبل أن يجيء الليل
و يقصفها قرصان من الشمال ،
... قال المدير من وراء نظارته ، و من وراء الزجاج على مكتبه :
ـــ التاريخ على عيني و على رأسي ، و لكن ماذا سأشغلك بالتاريخ يا.. ما اسمك ؟ قلت لي عبد الله الصغير.. لماذا صغير ها ها ها هي هي هي..
ـــ لماذا يكتبون التاريخ إذًا ؟
ــ أي تاريخ ؟ الذي يحصي الأحداث أم الذي يصنعه حاضر الآخرين؟
ـــ أنا لا أفهمك يا سيدي ، فأنا قرأت و درست تاريخًا واحدًا ، يذكر حوادث الأمم و الشعوب ، و يسجل أمجادها و أحزانها,
ــ أنت يا بني تقرأ التاريخ بلغة الشعر .
أحس عبد الله الصغير بالطعنات تتوالد في صدره و في خاصرته و في ظهره و في التاريخ .. كان سينسى ... قبل عشر سنوات كاد ينسى ، حاول أن يبدأ التاريخ من جديد ، سأل أمه :
ــ لماذا أنا .. الصغير ؟
قالت أمه : ــ لأنه هو(أبوك ) الكبير
ــ و لكن أين هو هذا الكبير الذي لا أراه ؟
ــ مات .. ( قالت مات كأنها تلقي كلمة السر في بئر سحيقة )
... كان أبوك غريبًا ، مسحورًا ، طائرًا يجوب الآفاق و الأحلام
يمكث شهرً و يطير شهورًا ، وحين يعود يبيت ينسج رؤىً و يرتل كلامًا
كالتعاويذ ، كالأشعار المليئة بالشجن والحنين ، و كان يصلي كثيرًا و يبكي و كنت حين أسأله كان يقول :
هناك في الجزيرة الخضراء ، حيث يضحك البرتقال للموشح الجميل ، وتُسكر الأعنابُ حقولَ الزيتون ، و تمتد المآذن حيث تُسبّح الملائك في السموات ، هناك أسافر كل يوم ، أزرع صدري من حقولها الخضراء ، أسقيها من عيون الدمع ، أحاول أن أجدد فيها الدم المراق على عتبات الذكريات ، و حين أتعب أستريح بين رموش امرأة عيناها تتسعان لكل قوافل الأحزان ، كأنها أنت، أو ليست أنت، هي امرأة أخرى من زمن آخر ، هي أنت، لست أدري، كأنكما امرأة واحدة في زمنين ،
و في آخر مرة يا بني دس في حقيبته فسيلة نخلة و قال لي : ــ يجب ألا يموت النخيل هناك ؟ سأغرسها كما لو أن حقلي مازال يمتد على طول الجزيرة الخضراء .
و عاد يا بني (أبوك) في صندوق ممنوع الفتح ، و قال بعضهم أن أصابعه الخمسة كانت مبتورة .
تلمس عبد الله الصغير وثائقه في جيبه ، قبّل أمه بين عينيها ، و تدثر بالغياب في ليل المدينة، في شوارعها الخلفية ، أحس بالصمت المتآمر يسلخ عنه بعض الذكريات التي عاش بعضها في نفس الشوارع ، وبعضها كأنه عاشها في الشوارع نفسها ،أو في شوارع أخرى بنفس العبق و بنفس الآهات، تزحلق على خاصرة المدينة ، كانت بعض النباتات تشده شدًا و هو ينزلق إلى الهاوية حيث المركب الأخرس تستثيره موجات جائعة ، وجد صاحبه يلوك بعض كلمات مريضة ، قال صاحبه : ــ ها أنت على وشك أن تفتح بلاد الأسبان
أحس عبد الله الصغير أن البحر ينتقم منه فقال دون أدنى دعابة :
ــ و هل يسمح لنا هذا الغامض الذي يحول بيننا ؟
ــ لطالما كنت تذكره بخير ، وتعتبره جسرًا بين الشمال و الجنوب
ــ إن ذلك يذكره التاريخ الذي يكتبه الحالمون ، أما البحر الذي يحدق بنا و يفتح فمه الآن فيكتب عنه الذين يحرقون سفنهم أو الذين يحرقون أحلامهم .
لم يقل أحدهما شيئا بعد ذلك . صاح رجل يلبس معطفًا من النيلون :
ــ سيكتمل العدد بعد ساعة حينها يجب أن تكدسوا بعضكم بعضًا بحيث يستوعبكم المركب جميعًا .
كانت الساعة تدق منذ خمسمائة عام ، زمن يتوالد ، يفقس بيض الذاكرة على طيور تسافر أسرابًا تعبر البحر، وحرائقَ البحر .. و على عبد الله الصغير أن ينتظر ساعة أخرى من الآلام الخالدة كأنها خمسمائة سنة مما يعدون ، لذلك راح يفتح كراسة أبيه :
ــ الذين قالوا إن أصابعه بترت ، تركوا لي هذه الكراسة يا بني .
ــ و ما جدوى الكراسة يا أماه ؟
ــ افتحها . اقرأ . لعلك تجد فيها ...
ـــ أجد ؟ ماذا أجد ، أجد أبًا مسافرًا مع الطيور أورثني لغزًا و حريقًا في دمي ؟ أم أجد مساحة في وطني الممتد من الشمس إلى الشمس أمدد فيها قامتي النحيلة المتعبة ؟
ــ أبوك يا ولدي لم يضق عليه وطنه ، و لكن كان يعيش في وطن من ذاكرة و أحلام ,
ــ أين هو يا أماه ؟
ــ افتح و اقرأ .
لم يفتح عبد الله كراسة أبيه ، ولم يقرأ حينها سطرا واحدا ،
كان قولهم : لا مكان لك , لا عمل لك ، لا شمس لك ، لا بحر لك ، لا قمر لك ، لا بيت لك ، لا أب لك ، لا عمر لك ، لا حبيبة لك ، لا وجود لك ، لا عشق لك ، لا أنتَ لك ، هو كل ما له، لذلك طوى الكراسة ، أما الآن فقد أحس أن الكراسة تميمة يجب أن يكتشفها بدل أن يعلقها ، اضطربت يداه و لكنه فتحها ، لم يجد شيئًا إلا كلمات كأنها الشعر ، انزوى تحت صخرة يقاوم ريحًا من البحر المتآمر ، و يمسح الظلمة بمصباح صغير , و قرأ :
حين احتضنتك أيها المورسيكي
كان دمك يتشبث بالأرض ،
عيناك تقولان لي :
لا تنس أن تزرع في دمي المراق نخلة
و كانت بقية الروح فيك أيها المورسيكي
تتسرب إلى عروقي ، تزرع فيها كروم حقلك الذي اغتصبوه
فكرومي لم تعد تعصر شعرًا
أمست تعصر دما و ألما
مثخن بالجراح أيها المورسيكي ،
دمك يركب سفينة الجروح إلى الشواطئ السمراء
وراءَك حقول الزيتون و البرتقال
و شقراء سبّحت في الملكوت , فعمّدوها غصبًا
أيها المورسيكي سأزرع نخلة في دمك
و في دمي عروقك ,,,,
لم يكمل عبد الله الصغير قراءة الكراسة لأن صاحب المعطف النيلوني صاح : اركبوا أيها المغامرون فليس لكم الآن إلا البحر ، من ورائكم و من أمامكم .
كأن عبد الله الصغير قال : ــ ولا سيوف في الأغماد و لا شمس لغد أيها المغامرون
كانت آخر أنوار المدينة تتكسر تحت زخات المطر وتتكسر في مهجة المسافر أيضا كالزجاج بلا سيف و بلا شمس
بقية من قصيدة المورسيكي :
،،،،، أيها المورسيكي
في سفينة النخاسين كانت جثتك ممددة على جراحي النازفة ،
تصرخ في الراحلين : لا وطن لكم هناك
ما عاد للبرتقال طعم التسابيح
و ما عاد للكروم موشّح العذارى
و"أضحى التنائي بديلا عن تدانينا
و ناب عن طيب لقيانا تجافينا"
فلتغزل بنات ابن عبّاد من سمرة الأرض ثيابا للقادمين إلى فجر الإياب
أيها المورسيكي
حين رأت أمك جثتك قالت :
ــ ألم أقل لك عمرك أنت يا بني مرتين ؟