بحث حول نظرات في غزوة تبوك
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، أما بعـد،،،
فأوصيكم و نفسي بتقوى الله، و أن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله:{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ[88]إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89]}[سورة الشعراء] . ثم اعلموا أن الحق و الباطل في خلاف دائم، و صراع مستمر، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيِّب، فمنذ بَزَغَ نجم هذا الدين و أعداؤه من يهودٍ و نصارى و مشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف] .
حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما أفلحوا، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين فما أفلحوا، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا و هم يحاولون دائبين ؛ بالعنف و الصراع المُسلح تارة، و بالمكر والخداع و الخطط و المؤامرات تارة أخرى، ولسنا مجازفين عندما نقول ذلك ؛ فالله يقول :{...وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . ويقول سبحانه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] . هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا، و أَيُ شهادة أعظم من شهادة الله وأصدق . والتاريخ في ماضيه و حاضره يشهد بذلك، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا وسُنَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا؛ يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة وقد كانت قائدة، وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا، ويتساءل المرء متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل والمسكنة؟! متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد وصلاح والقعقاع ؟! متى تُحيَا في القلوب آل عِمران، والأنفالُ، وبَرَاءة؟!
وإنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
عَودًا سريعًا إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عَودًا لسيرة من لم يطْرِق العالم دعوة كدعوته، ما أحرانا و نحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرنًا ؛ لنعيش يومًا من أيام محمد صلىالله عليه وسلم، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة، لنأخذ العِبرة و الدروس من تلك الساعة في هذه الساعة :
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِــبَرْ ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَــبَرْ
عَوْدًا بكم إلى السنة التاسعة للهجرة؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذَلَّ فيها الكافرون، ما السبب وما الأحداث؟ ما آيات النبوة فيها؟ ما الدروس المستفادة؟ إليكموها فاعتبروا بما فيها.
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم ؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة مؤتة التي جلبوا لها مائتيْ ألف، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل ؛ بل ولا هزيمتهم، فيا للَّه !!
كنا جبـالًا في الجبـال و ربمـا صـرنا على موج البحـار بحـارًا
عند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ولأول مرة عن مقصده، وأعلن التعبئة العامة، فتجهز أقوام، وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله ..تساقط المنافقون، ومن يرد الله فتنته فلن تجد له سبيلًا . هاهو أحد المنافقين فَرَّ من الموت وفي الموت وقع، أعرض عنه- صلى الله عليه وسلم- وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، و الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ –وأذلَّه- وأنزل فيه قرآنًا يُتلى:{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا...[49]}[سورة التوبة] .
ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحرب . ويأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زادًا ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا يقولون : يا رسول الله لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد و راحلة، فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا { تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[92]}[سورة التوبة] .
وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده، و يخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على أهل بيته عليًا رضي الله عنه، ويخيم صلى الله عليه وسلم في ثنية الوداع و معه ثلاثون ألفًا، و يأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم و إرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، و يستهزئون، و الله يستهزئ بهم.
و قبل مسيره صلى الله عليه وسلم تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول- و هي تزهد في الجهاد- : لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق، وترجف برسول الحق، ويتولى الحق الرد:{ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[81]}[سورة التوبة] .
هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر طَلْحَةُ، فيقتحمون الأسوار خوفًا من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، و يفِرُّ الباقون، و يَعِزُّ جُنْد الحق رغم أنوفهم، و يخيب كل منافق خَوَّان . ويتوجَّه صلى الله عليه وسلم و يمر بديار ثَمُود، ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، و آبارهم معطَّلة، و أشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه، وهو يبكي، ويقول لجيشه: [لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ]رواه البخاري ومسلم .
يا لله !! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي بالله .. فيمن يجالس الظَلَمَة، و يؤيد الظَلَمَة، و يركَن إلى الظَلَمَة، و يكون لهم أنيسًا و لسانًا و صاحبًا.. كيف يكون حاله؟! ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ...[113]}[سورة هود] .
لازال صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تَبُوك، قد بلغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغًا عظيمًا، لكن في سبيل الله يهون، و مع السَّحَرِ ينام من التعب على دابَّتِه حتى يكاد يسقط- كما في صحيح مسلم- فيقترب منه أبو قتادة، فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين، حتى كاد يسقط، فيدعمه بيده، فيرفع رأسه- صلى الله عليه وسلم- و يقول: [ مَنْ هَذَا] قال : أنا أبو قتادة، فيُكَافِئَه صلى الله عليه وسلم، فبمَّ كافأه ؟ قال: [ حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ]. يقول أهل العلم: فوالله مازال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا، وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله؛ حفظه الله فلا خوف عليه، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء .
وينتهي المسير بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ويقيم بضع عشر ليلة ويدنو من الروم ويفزعهم، ويكاتب رسلهم، و يفرض عليهم الجزية، و هم صاغرون، ولم يلق كيدًا منهم؛ لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر، فلم يقرب إليه الروم خوفًا وفزعًا، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره:{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا[15]وَأَكِيدُ كَيْدًا[16]فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا[17]}[سورة الطارق] .
ويرسل صلى الله عليه وسلم خالدًا على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى أُكيْدِر ملك دومة الجندل، و يخبر صلى الله عليه وسلم خالدًا أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش، خرج خالد، ولما بلغ قريبًا من حصنه، وجده قد خرج للصيد كما أخبر، فتلقته خيل الله بقيادة خالد، فاستأسرته، واستلب خالد منه قميصًا مخوصًا بالذهب، و بعث به إلى رسول الله قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يتعجبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم- مُزهِّدًا لهم في زخرف الدنيا- : [ أَتَعْجَبُونَ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا]رواه البخاري ومسلم. قدم خالد بالأكيدر، وحقن دمه صلى الله عليه وسلم و ضرب عليه الجزية، ولكنه مجرم، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه، نقض العهد في عهد أبي بكر، فقتله خالد رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.
ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد إرهاب أعداء الله من نصارى و يهود و مشركين، يعود في يوم بهيج، لتستقبله المدينة نور بصرها صلى الله عليه وسلم يخرج الأطفال في فرح، ليصطفُّوا إلى مداخل المدينة، وعلى أفواه الطرقات، و هنا قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: [وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ]رواه البخاري.
وهكذا انتصر المسلمون في تبوك على شهواتهم وأنفسهم، وبالتالي انتصروا على أعدائهم:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] هذه غزوة تبوك قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، جنودها صحابته رضوان الله عليهم، عز فيها المؤمنون، وسقط المنافقون، وذل الكافرون وانهزموا، وبالجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون، و المؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يُرهبهم، و لا هم في الحوادث يحزنون.
دروس وعبر من غزوة تبوك:
ولئن انتهت غزوة تبوك ، فما انتهى نورها، و ما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، و في كل قصة عظة وعبرة، و في كلذكرى منها موعظة، هل يكفي سرد أحاديث الماضي، والتغني بالذكر الغابر؟ هل يجزي هذا، و قد تشابكت بأمة الإسلام –في هذه الأعصار- حلقات من المحن، و تقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كل جانب، و تداعى عليهم الأكلة من كل فج . لابد أن نستفيد مما مضى، فهاكم بعض دروسها وعبرها:
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد، و مجاهدة، و صبر، ومصابرة، و متى ما تركت الجهاد، ضُربت عليها الذلة والمسكنة .
دعِ المِـداد و سطِّر بــالدَّمِ القانِي و أسكتِ الفَمَ و اخطبْ بالفمِ الثَّـانِي
فَــمُ المدافعِ في صدرِ العـداة لهُ منَ الفصاحةِ مـا يُذري بسـحبانِ
ومن هذه الدروس: أن الله تعالى، كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ...[40]}[سورة الحج] .
ومن هذه الدروس: أنه ما تسلل العدو سابقًا ولاحقًا إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية:{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ...[47]}[سورة التوبة] .
ومن هذه الدروس: أن مواجهة الأعداء، لا يشترط فيها تكافؤ القوى: يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، و يتعلقوا به، ويثبتوا، ويصبروا، وعندها يُنصروا، فها هو سلفهم ابن رواحة يقول:' والله ما نقاتل الناس بعَدد، ولا عُدد، و ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي كرمنا الله به' .
ومن هذه الدروس:أن الحق لابد له من قوة تحرسه، لا يكفي حق بلا قوة .
فما هو إلا الوحيُ أو حـــدُّ مُرهَف تقيم ظباه أخدعيْ كل مـائلِ
فهذا دواء الداء مـن كل جاهــل و هذا دواء الداء من كل عاقلِ
دعـا المصطفى دهـرًا بمكة لم يُجَب وقـد لان منه جانب وخـطاب
فلما دعا و السـيف بالكف مسلط له أسـلموا و اسـتسـلموا و أنابـوا
ومن هذه الدروس:أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون، و لن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد صلى الله عليه وسلم سابقًا و لاحقًا، فهم يُجمعون أمرهم و شركاءهم، و يُعمِلُون مكرهم و دسائسهم:{... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]}[سورة الأنفال] . في نهاية هذه الغزوة هاهي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقيًا منافقًا تواطئوا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم. وتنفيذ الخطة - في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى تبوك ليسقط من على راحلته فيهلك -على حد زعمهم-، و يصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله، حذيفة آخذ بخطام ناقته، وعمار يسوقها، و إذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء والعار، فيصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيولوا مدبرين، و يحفظ الله سيد المرسلين، و ينزل الله قوله في المنافقين:{... وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا...[74]}[سورة التوبة] . ويرسل بعدها صلى الله عليه وسلم عليهم سهمًا إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم، و يدخل إلى قلبه ؛ فلم ينجُ منهم أحد ؛ فإلى جهنم، وبئس القرار .
ومن دسائس أعداء الله: أنهم أرسلوا لكعب بن مالك رضي الله عنه، يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكن كعبًا مؤمن علم أن هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة:{...وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ[25]}[سورة غافر].
هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر، في كل زمان و مكان، يتحسسون الأنباء ويترصدون، ويتربصون بالإسلام و أهله، و كم من أقدام في مثل هذا ذلَّت!، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت !، أما كعب فيمَّمها التنور و سجَّرها، و كم في الأمة من أمثال كعب !.
فدت نفسي و ما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
ومن هذه الدروس: إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى و ألف مهند: قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها، و تعلقت بهذا أو بذاك؛ إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها .
من يتق الله و ينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنصَر
ألا وإن من أعظم الدروس من غزوة تبوك - و المسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة و متغيراتهم الحثيثة- إنه الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد و كفى .. من محرابه تنطلق قوافل المجاهدين بالجهاد ترد عاديات الطغيان ؛ فيكون الدين لله، ولا تكون فتنة، جهاد بالنفس والمال واللسان والسنان، ويبقى دين محمد –صلى الله عليه وسلم- مهيمنًا .
فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان اتقوا الله، وأجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم ؛ فإن من لا يذود عن دينه ومحارمه ولا ينتصر لدينه؛ ذليل حقير، غير حقيق بالعزة ؛ بل لا تحلو له الحياة، اصبروا، وصابروا، ورابطوا، و بما تمسك به أسلافكم تمسكوا، جاهدوا كجهادهم، و اصبروا كصبرهم، وتوكلوا على الله، و ثقوا بالله واطمئنوا، و أبشروا، و العاقبة للمتقين :{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات] .
'خذوا إيمان إبراهيم، تنبت لكم في النار جنات النعيم' .
يا أمة الإســلام فانتفضي . . . فـإن الجــرح غـائـر
والجمع مُذْ فقد العقيدة فهـو . . . مضطــرب وحـائـر
وجريحنا الأقصى هـوى . . . وديـس بـالحـوافــــر
فهناك تعبث في جوانب أرضه . . . عُـصَــب الكوافـر
وتسومهم ذلا وخسفـًا . . . كالبهائـم فـي الحظائــر
يا أمتي فلتنفضي عنك . . . الغبـــار وتستعـــدي
ولتنفري نحو الجهاد بكل . . . إقـــدام وجــــد
إن الجهاد به نرد لَجاجـة . . . الخـصــم الألــــدِّ
وبدونه نبقى على ما نحــن . . . من أخـــذ ورد
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود . . . إلى رحــــــابك
واهدِ الولاة لكي يسوسوها . . . بوحي من جنابــــك
وأمدها بالنصر ليس النصر . . . إلا من جنابـــــك