بحث حول محمد العربي بن مهيدي 1923-1957
ولد الشهيد محمد العربي بن مهيدي سنة 1923 بدوار الكواهي، ضواحي عين مليلة بالشرق الجزائري والتي كانت تابعة آنذاك لعمالة قسنطينة (1). كان ثاني إخوته وأخواته الأحياء، تكبره أخت ويصغره أختان وأخ واحد، وهو محمد الطاهر الذي استشهد سنة 1958 بناحية القل (2). والده هو عبد الرحمن مسعود بن مهيدي من قبيلة "المهايدية" المتفرعة عن عرش أولاد دراج. أما أمه فهي عائشة قاضي بنت حمو الساكنة بمدينة باتنة. كانت عائلة الشهيد ميسورة الحال، محافظة على أصالتها متمسكة بالدين الإسلامي، وتتولى خدمة طالب (معلم) القرآن الذي يعلم أبناء الدوار حيث تتكفل بشؤون حياته من مسكن، ملبس ومؤونة.
كان أبوه يشتغل بالتجارة في مصنع له بمدينة الخروب. ومن الطبيعي أن يتعلم محمد العربي القرآن الكريم كعادة أبناء الريف، حيث حفظ ما تيسر له منه، بعد ذلك ادخله والده مدرسة الخروب. ولأسباب عائلية لم يستطع الطفل تحملها في هذه السن، نقله أبوه إلى مدرسة عين مليلة، ولكن بعد المدرسة عن مسكنه أثر على تحصيله الأمر الذي جعل أبوه ينقله إلى خاله قاضي السعيد، بمدينة باتنة أين إلتحق بمدرسة العمراني (حاليا) وتحصل فيها على الشهادة الابتدائية.
بعد أن باع والده مصنعه بسبب خلافه مع مصلحة الضرائب التي كانت تضايقه، أنتقل جميع أفراد العائلة إلى مدينة بسكرة، أين تابع محمد العربي دراسته في القسم الإعدادي باللغة العربية، وعلى الرغم من اشتراكه في عدة مسابقات للقبول بمدارس قسنطينة إلا أن الاستعمار أقصاه كبقية أترابه الراغبين في مواصلة التحصيل العلمي. وحتى لا تصاب حياة ابنه بالعقم وفكره بالشلل، طلب الأب من المدرس علي مرحوم أن يعطي ابنه دروسا خصوصية في المنزل فكان له ذلك. وبعد افتتاح أول مدرسة للتربية والتعليم ببسكرة أوائل سنة 1943، التحق بها الشهيد وتلقى دراسة على يدي الشيخ السماتي محمد العابد المعروف بالجلالي نسبة إلى بلدة أولاد جلال (3).
بعد هذا القسط الذي حظي به من التعليم انتقل الشهيد إلى العمل في الوظيفة، حيث أشتغل بمصلحة التموين التابعة لثكنة باتنة العسكرية، وبما أنه كان شغوفا بمطالعة الكتب، فلقد كان يتردد على مكتبة الثكنة أين وقعت يداه ذات مرة على كتاب يتحدث عن مقاومة الصنديد "تاكفاريناس" العنيفة لروما، فاستقرت في ذهنه فكرة العنف ضد المستعمر لتحقيق حياة كريمة. ليتمكن بعدها من الاستيلاء على مسدسين من مخزن الأسلحة، وإثر تفطن إدارة الثكنة لاختفاء المسدسين بدأت تتبع خطوات محمد العربي الذي دفعه حبه الكبير للحرية إلى ترك الوظيفة التي لا تتماشى وميولاته وأشتغل في بعض الأعمال الحرة. ومن شدة كرهه للفرنسيين كثيرا ما كان يتشاجر مع الشرطي " بيرار" العامل بمركز شرطة بسكرة، المعروف بعنصريته المفرطة، مثل تشاجره بين الحين والآخر مع بعض الخونة.
ومن الصفات الأخلاقية التي كان يتميز بها الشهيد، حبه الانضباط في العمل والتدقيق فيه، والتنظيم والتخطيط في كل نشاط يقوم به، وإضافة إلى صبره الشديد عرف أيضا عن الشهيد التواضع وعدم الكبر، والابتعاد عن الارتجال.(4)
"ارموا بالثورة إلى الشارع و سيحتضنها الشعب"
انضم محمد العربي إلى صفوف الكشافة الإسلامية في سن مبكرة (سنة 1939)، بفرع "الرجاء" بمدينة بسكرة وأصبح قائدا لفوج الفتيان بفضل انضباطه التام. لينضم في 1942 إلى خلية حزب الشعب التي كان يترأسها آنذاك أحمد غريب، ومنذ هذا الوقت ازداد نشاطه وصلبت إرادته. في سنة 1944 شارك الشهيد في مسرحية "في سبيل التاج" التي أخرجها مرشد الكشافة علي مرحوم، وأتقن دور البطولة الذي أسند إليه، كما عرضت هذه المسرحية في عدة مدن منها: بسكرة، قسنطينة، عنابة وقالمة. ولأن هذا العمل الفني الإبداعي بدأ يؤثر في الرأي العام، فهمت فرنسا أنه عبارة عن عمل نضالي من طرف حزب الشعب، فأصدرت قرارا يمنع الفرقة من التنقل إلى مدن أخرى. بالموازاة مع ذلك، ونظرا لحبه للرياضة وقصد نشر الوعي في أوساط الشباب انخرط الشهيد في فريق "الإتحاد الرياضي البسكري" الذي سرعان ما أصبح لاعبا ماهرا في صفوفه.
في مطلع شهر مارس من نفس السنة (1944) تأسس حزب أصدقاء البيان والحرية الذي ضم في صفوفه جميع الحساسيات الموجودة في الساحة، فانضم إليه الشهيد عن قناعة وإيمان عميقين، وقبل حلول شهر ماي 1945 أصدر الحزب أوامر لمناضليه من أجل التحضير ليوم 8 ماي، وذلك بالمطالبة بتحرير زعيم الحزب "مصالي الحاج" واستقلال الجزائر. وبمقر نادي بسكرة الذي كان محمد العربي كاتبا عاما له، والموجود بنهج "بولفار" سابقا، تمت خياطة العلم الجزائري تحت رعايته هو، كما قاد المظاهرات العارمة في اليوم الموعود رفقة المناضل محمد عصامي، وهما العنصران النشيطان اللذان ألقت عليهما شرطة العدو القبض أسبوعا واحدا بعد ذلك، ودامت فترة احتجاز الشهيد 21 يوما، تعرض خلالها للبحث والاستنطاق تحت ألوان شتى من التعذيب غير أنه لم يكشف عن أي سر. بعد شهر جويلية من سنة 1945، عين محمد العربي على رأس قسم جديد في إطار هيكلة حزب الشعب التي عرفت تجديدا على مستوى الخلايا والفروع والأقسام. في انتخابات 1946 ظهر حزب الشعب تحت إسم جديد "حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية"، وكان الشهيد من بين مؤسسيه وشارك في الدعاية ضد المرشحين من عملاء فرنسا. وعين الشهيد مسؤولا عن الجنوب الشرقي للبلاد في إطار المنظمة السرية التي أعلن عن إنشائها في اجتماع العاصمة المنعقد يومي 16-17 فيفري 1947، ليصبح في سنة 1949 مسؤولا عن ناحية سطيف حيث شغل منصب نائب لرئيس التنظيم السري على مستوى شرق البلاد المرحوم محمد بوضياف. وفي سنة 1950 تم تحويل هذا الأخير لنفس المهمة بالجزائر العاصمة وضواحيها فتولى محمد العربي مسؤولية التنظيم لناحية قسنطينة، عنابة وتبسة. وبعد اكتشاف أمر المنظمة السرية في نفس السنة، بسبب ما عرف "بقضية تبسة" آوى الشهيد مصطفى بن بولعيد مجموعة من إطارات التنظيم في منطقة الأوراس، منهم محمد العربي بن مهيدي، زيغود يوسف، عمار بن عودة، رابح بيطاط وغيرهم، وهي المجموعة التي يعود لها الفضل في تكثيف نشاط المنظمة بالمنطقة نظرا للجهود الجبارة التي بذلتها هناك.
في سنة 1952 عين الشهيد مسؤولا على دائرة وهران التي تنقل بها إلى عدة مناطق أهمها مغنية وعين تيموشنت(5). بعد حدوث أزمة 1953 قرر خمسة شبان وهم: مصطفى بن بولعيد، ديدوش مراد، محمد العربي بن مهيدي، محمد بوضياف ورابح بيطاط الإنتقال الفوري إلى الكفاح المسلح، وفي مارس 1954 تأسست "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" على يد أولئك الرجال. وفي 23 جوان 1954 إجتمع 22 عضوا بارزا من المنظمة الخاصة في بيت المناضل إلياس دريش بأعالي العاصمة، ومنهم بن مهيدي، وهو الإجتماع الذي قال فيه كلمته الشهيرة "ارموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"، كما انبثقت عنه لجنة مكلفة بتحضير الثورة سميت "بمجموعة الستة" الذين عملوا على تهيئة الجو للدخول في الكفاح المسلح ومنه تقسيم البلاد إلى خمس مناطق، وعين بن مهيدي قائدا للمنطقة الخامسة ( الغرب الجزائري) ومن يومها صار يعرف باسم ثوري مستعار هو "الحكيم".
بعد سلسلة من الإجتماعات كان آخرها يومي 23-24 أكتوبر 1954 بالعاصمة نوقش خلاله نص بيان أول نوفمبر. على الرغم من الظروف الصعبة التي أحاطت بالعمل الثوري بتلك الجهة من الوطن إلا أن الشهيد خطط لهجومات أول نوفمبر بإحكام، وبعد تقسيم الأفواج وتحديد مواقع العدو المستهدفة، نفذ المجاهدون عدة عمليات تمت بنجاح شملت عدة نواحي بالمنطقة.
وقصد ضمان تموين المجاهدين بالسلاح، وإقامة جبهة موحدة هي "جيش تحرير المغرب العربي سافر "الحكيم" شهر ديسمبر 1954 إلى المغرب ثم إلى القاهرة ولم يعد إلا في أواخر جانفي 1955 من أجل إعادة بعث وتنظيم الثورة بالغرب. كما تعددت رحلات الشهيد في هذه السنة إلى المغرب من أجل تحقيق الحلم سابق الذكر.(6)
شارك الشهيد في أشغال مؤتمر الصومام (20 أوت 1956) وفي نهايته أسندت له مهمة الإشراف على العمليات الفدائية في إطار لجنة التنسيق والتنفيذ. وعلى هذا تنقل الشهيد إلى قلب العاصمة في أكتوبر 1956 لتنظيم خلايا الفدى، حيث كان يردد "سأحول مدينة الجزائر إلى ديان بيان فو ثانية" وما إن حل شهر جانفي 1957 حتى نظم إضراب الثمانية أيام الذي إنطلق يوم 27 جانفي ودام إلى غاية 4 فيفري من نفس السنة. ولكن بعدها بأيام قلائل (23 فيفري 1957) ألقي القبض على الشهيد بن مهيدي من طرف فرقة المظليين بالعاصمة، فتعرض للبحث والإستنطاق بوسائل تعذيب جهنمية غير أنه كان يردد أمام
جلاديه "أمرت فكري بأن لا أقول لكم شيئا" وعندما سأله أحد الصحفيين لم تضعون القنابل في القفف لتنفجر في وجه الجيش الإستعماري أجابه الشهيد بذكاء:" إعطونا طائراتكم ومدافعكم نعطيكم قففنا."
وهنا فقط قررت حكومة العدو تصفيته يوم 4 مارس 1957. فترك وراءه سجلا حافلا بالبطولات باعتراف العدو قبل الصديق، إذ قال عنه السفاح بيجار:" لو كانت لي ثلة من أمثال محمد العربي بن مهيدي لفتحت العالم".